[[{“value”:”
على حدود قطاع غزة الشمالية يوجد تجمع استيطاني إسرائيلي يحمل اسم مجلس “أشكول” المحلي، يبلغ عدد سكانه 13 ألف يهودي فقط، وهذا العدد القليل يسيطر على مساحة 380 كيلومترًا مربعًا من مساحة فلسطين. وإلى جوارهم في قطاع غزة يقيم 2.4 مليون فلسطيني، وهذا العدد الكبير يقطن على قطعة أرض مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا فقط.
هذه المقارنة الجغرافية والديمغرافية الظالمة تعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون فوق أرضهم تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، والمقارنة نفسها تلقي الضوء على المنطلقات السياسية والحياتية التي تقف خلف قرار معركة طوفان الأقصى، وهي تدخل السنة الثانية من عمر مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وقد انجلت اليوم عن حرب إبادة حقيقية ضد سكان شمال قطاع غزة، تمثلت في يومها التاسع عشر بالمذبحة والقتل الممنهج المتواصل، والتجويع المتعمد، والترويع على مدار الوقت، تمهيدًا لتشريد سكان شمال قطاع غزة الذين تجاوز عددهم ربع مليون عربي فلسطيني، بات تواجدهم فوق أرضهم يشكل رعبًا لحياة 13 ألف مستوطن يهودي يستوطنون تجمع أشكول المحلي.
24 يومًا والمذابح لا تتوقف شمال قطاع غزة، 24 يومًا والموت يطوف على بيوت المدنيين، ويلقي بجثث أطفالهم على النواصي، ويعلق جثث نسائهم من جدائلها على الطرقات، حتى أضحى المواطن الفلسطيني حائرًا بين البقاء في بيته تحت سقف الموت، أو النزوح عن بيته عبر حقول المتفجرات والقصف.
وفي الحالتين، فالمواطن الفلسطيني في شمال قطاع غزة غير آمن. فالبقاء في البيت أو في مراكز الإيواء يعني انتظار الموت الزاحف مع الأحزمة النارية، أو مع الجوع والعطش وانعدام مقومات الحياة، بينما الاستجابة لنداء الأعداء، ومغادرة البيت، والابتعاد عن مراكز الإيواء، تعني الموت بالقذائف العشوائية التي ترشها الطائرات المسيرة الإسرائيلية على كل متحرك في المنطقة.
إنها حالة من الرعب غير المسبوق يعيشها العربي الفلسطيني في شمال قطاع غزة، ولا سيما بعد ارتفاع عدد الشهداء في غضون تسعة عشر يومًا إلى 750 شهيدًا، خلافًا لمن ظلت أجسادهم مدفونة تحت ركام البيوت، إضافة إلى 1600 جريح ضجت بهم مستشفيات الشمال الخارجة عن الخدمة.
وضع إنساني غير مسبوق، وهذا الوضع نتاج مخطط صهيوني مكشوف الأهداف، يتجاوز خطة الجنرالات التي طرحها “غيورا أيلاند”، والذي يدعو إلى قطع المساعدات عن شمال قطاع غزة، وترويع المدنيين وتشريدهم، بحيث لا يبقى في شمال قطاع غزة إلا المقاومون، وقد أُغلقت أمامهم سبل النجاة، بحيث لا يبقى لهم إلا الموت جوعًا وعطشًا، أو الموت بالصواريخ الإسرائيلية. وفي المآل النهائي، فهدف الخطة هو القضاء على المقاومة الفلسطينية.
فهل تنجح خطة الجنرالات في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وتصفية مقاومتهم، وتحقيق الأمن للإسرائيليين، بل والسماح لبعض المتطرفين اليهود بالعودة إلى غزة مستوطنين، كما يدعو إلى ذلك الكثير من أعضاء الكنيست من حزب الليكود الحاكم؟ وهل استخدام العنف الإسرائيلي، والمزيد من العنف بقادر على تصفية المقاومة الفلسطينية بعد تفريغ الأرض من سكانها؟
وحتى يومنا هذا من حرب الإبادة ضد أهالي شمال قطاع غزة، فما زال العرب الفلسطينيون صامدين فوق أرضهم، رغم مكبرات الصوت الإسرائيلية التي تطالبهم بالنزوح، ورغم الصواريخ والقذائف التي تتساقط فوق رؤوسهم.
فمرارة تجربة الفلسطينيين في النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وما يعانونه من أهوالٍ ما زالت ماثلة أمامهم، ولا سيما بعد تواصلهم مع أقاربهم وتحذيرهم من ويلات النزوح. زد على ذلك طريق النزوح غير الآمن، والمعلق على مقصلة الموت طول الطريق.
ليقف الفلسطيني بين خيار الموت نزوحًا، أو الموت مكوثًا، فيختار حتى كتابة المقال البقاء تحت البيوت المدمرة، وفي المربعات السكنية التي تباد، كخيار لا مفر منه، ولا سيما بعد أن تخلى عنهم القريب والبعيد، وتركهم مع مآسيهم المجتمع الدولي بكل منظماته الإنسانية، وخذلهم الرفيق والصديق، ولم يبقَ لهم إلا أنفسهم ومقاومتهم، التي أرعبت عدوهم، وفرضت على الجنرال “غيورا أيلاند” أن يعيد حساباته، ويعدل من خطة الجنرالات التي طالب بتطبيقها قبل فترة من الزمن، ليطالب اليوم عبر صحيفة “يديعوت أحرونوت” بموافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار، والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، وذلك بعد أن فرض عليه واقع غزة أن يغير قناعاته.
ليؤكد أن الأوضاع في غزة لن تتغير حتى بعد سنة أخرى من حرب التدمير والتهجير، وعليه فإن مواصلة الحرب على غزة ستكلف إسرائيل فقدان الأسرى المحتجزين في قطاع غزة، وستكلفها فقدان المزيد من الجنود، والأصعب من ذلك هو عدد الجرحى الذين فقدوا أطرافهم، والأسوأ من كل ما سبق، هو الوضع الاقتصادي المتردي جراء مواصلة الحرب، حيث اعترف الجنرال “أيلاند” أن تكلفة العدوان على غزة تصل إلى نصف مليار شيكل يوميًا.
العدوان الإسرائيلي على شمال غزة لم يتوقف بعد، ولن يتوقف ما دام أنه يحظى بالدعم الأميركي والإسناد الأوروبي، وما دام أن العدو الإسرائيلي مطمئن للحالة العربية الهادئة، والتي يغلب عليها التعاطف الشعبي الصادق مع أهالي قطاع غزة، وفي الوقت نفسه يغلب عليها التجاهل الرسمي الماحق لأي فكرة حراك جماهيري يهدف إلى تغيير المعادلة القائمة على الأرض العربية.
وعليه، فإن العدو الإسرائيلي في مأمن من الضغط الدولي، ما دامت الدول الأوروبية وأميركا مطمئنة على الواقع العربي المستكين والهادئ، لتظل المقاومة الفلسطينية هي العنوان الأبرز للمرحلة القادمة من الصراع.
“}]]