[[{“value”:”
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
“عند وصولي إلى سجن مجدو تخيلت نفسي أنني في سجن أبو غريب، ولولا إيماني لفقدت عقلي”، يقول أحد أسرى قطاع غزة المفرج عنهم في شهادته على التوحش الإسرائيلي في السجون، ويقول آخر “تم تقييد بالأصفاد وبقيت معصوب العينين طوال الـ 55 يوما التي مكثت فيها في هذا الاحتجاز، ويمكنك أن تتخيل مدى صعوبة النوم أو حتى الحركة، كان مقدار الألم الذي شعرت به في يدي وظهري لا يطاق … طوال هذه الفترة لم أستحم”.
ويضيف ثالث: “كثير من الأحيان، تم نقلي إلى الحبس الانفرادي، حيث تم عزف الموسيقى الصاخبة لعدة ساعات، مما حرمني من النوم، ثم انتقلت إلى غرفة باردة. أتذكر أن الهواء البارد ينفجر في وجهي لفترات طويلة، وبعد ذلك تم نقلي إلى غرفة الاستجواب”.
وفي حالة أخرى فظيعة من حالات العنف الجنسي المبلغ عنها، وصف رجل فلسطيني أطلق سراحه، قام الجنود الإسرائيليون بجره هو ورفاقه في الزنزانة إلى المطبخ وهم مكبلي الأيدي خلف ظهورهم، وأجبروهم على خلع ملابسهم، عاريين ومكدسين فوق بعضهم البعض. بينما كان عاريا، قام أحد الحراس بوضع قطعة من الخضار في فتحة الشرج، بينما كان الجنود الآخرون يصورون بهواتفهم”.
كانت تلك غيض من شهادات معتقلي كتب لهم “النجاة” في شهادات للمفوضية السامية لحقوق الإنسان عما عايشوه داخل معسكرات الاعتقال الإسرائيلية في إثر اعتقالهم خلال حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، غير أن تلك الوقائع التي وثقتها عشرات التقارير الحقوقية الدولية لم تكن حالة مستجدة في حياة الأسرى داخل منظومة السجون الإسرائيلية بعيد السابع من أكتوبر 2023، وإنما سبقه تاريخ طويل من التوحش القائم منذ احتلال فلسطين بما فيه من كثافة لسياسات التعذيب والتنكيل الممنهجة التي شكلت ولا تزال نهجاً ثابتاً في بُنية السجن. غير أن وتيرة هذه السياسات وصلت إلى ذروتها بعد بداية الحرب، حيث استعاد السجان الإسرائيلي سياسات الإماتة عبر التعذيب والتنكيل الجسدي والجنسي إلى جانب التعذيب النفسي.
تلاعب قانوني
ففي 8 أكتوبر 2023 أعلنت حكومة الاحتلال حالة الطوارئ وهو “الأساس القانوني” التي جرى في ضوءها تعديل العديد من “الأطر القانونية” والإجراءات كافة المتعلقة بالأسرى الفلسطينيين، حيث صادق الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في 18 أكتوبر 2023 على قانون يسمح باحتجاز الأسرى المصنفين “سجناء أمنيين” بما لا يتلائم مع المعايير الأساسية للاحتجاز في السجون، بذريعة احتمال اعتقال المئات من الأسرى وعدم جهوزية السجون لاحتجازهم وفقاً للمعايير الأساسية التي وضعتها المحكمة العليا في قرارات سابقة لها، وقد طبق هذا القانون على أسرى الضفة الغربية المحتلة.
أما أسرى غزة، فمنذ سنة 2005، تتعامل سلطات الاحتلال مع المعتقلين من القطاع الذين لا تتوافر بيّنات في حقّهم بموجب “قانون المقاتل غير الشرعي، 2002″، وهو اعتقال شبيه بالاعتقال الإداري، مبني على ملف سرّي من دون تهمة واضحة، ومدته غير محددة. واستناداً لهذا القانون يخضع أسرى غزة مباشرة للجيش وليس لإدارة السجون، ويمنع أي تواصل معهم عن طريق الصليب الأحمر أو المحامين، ولا يصرح بأسمائهم أو ظروف احتجازهم.
كما أتاحت “أوامر ساعة الطوارئ” التي أصدرتها حكومة الاحتلال في 26 أكتوبر 2023 للتعامل مع “المقاتلين غير الشرعيين” اعتقال أي شخص دون عرضه على أي “سلطة قانونية/ قضائية” حتى 75 يومًا من تاريخ الاعتقال، إضافة إلى عدم السماح بأي استشارة قانونية لفترة تصل إلى 6 أشهر، وهو ما يعني سياسة إخفاء قسري مقوننة للمعتقلين، فحتى اليوم لا يعرف عدد المعتقلين من قطاع غزة الذين اعتُبروا “مقاتلين غير شرعيين”، ولم يُسمح بزيارتهم.
أمّا معتقلي غزة الذين حُوّلوا إلى مراكز التحقيق، فيتم احتجازهم بموجب “قانون الإجراءات الجزائية (صلاحيات التنفيذ – اعتقالات) 1996″، و”قانون منع الإرهاب، 2016”. وقد حدّدت هذه القوانين فترة التحقيق قبل تقديم لائحة اتهام بمدة 55 يوماً، غير أن حكومة الاحتلال أصدرت أوامر جديدة في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 تسمح باحتجاز المعتقل لـ 90 يوماً، وهو ما يعني إحياء إجراءات الاعتقال والتحقيق بموجب الأوامر العسكرية التي تسمحت باحتجاز أي شخص مدة 3 أشهر من دون مراجعة قضائية حقيقية، وفي عزلة تامة عن العالم الخارجي، وتركه عرضة للتعذيب الشديد، وهي جرائم حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، والقانون الجنائي الدولي.
الطريق إلى المجهول
وتمثل لحظة اعتقال الفلسطيني أول الطريق إلى مصير مجهول يمر به منذ لحظة اقتحام بيته أو مكان عمله أو عبر حواجز عسكرية بناء على ملفات أمنية إسرائيلية أو بأوامر ضباط كبار في جهاز الشاباك، وفي حالة حرب الإبادة على غزة أصبحت سلطة إصدار أمر اعتقال بيد ضابط أقل درجة من القائد العام لجيش الاحتلال ومَن يخوّله هو للقيام بذلك، بهدف تسهيل عمليات الاعتقال.
وتقدر المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن جيش الاحتلال اعتقل منذ السابع من أكتوبر آلاف الفلسطينيين أثناء وجودهم في مراكز الإيواء في المدارس والمستشفيات والمباني السكنية، أو عند نقاط التفتيش العسكري أثناء النزوح القسري لأعداد كبيرة من الفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، حيث شهد أطفال ونساء على اعتقال أزواجهم أو آباءهم أو إخوانهم، وكانوا في معظمهم من الرجال والقصر، ولم يسمعوا أي شيء عن حالتهم منذ ذلك الحين، إضافة إلى العشرات من النساء والفتيات، وعاملون في المؤسسات الأممية، وأطباء وممرضات وعاملون في القطاع الطبي (350) إلى جانب جرحى ومرضى ومرافقيهم والنازحين المحتمين بالمستشفيات فراراً من القنابل الإسرائيلية.
وفي مايو 2024 نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن سلطات الاحتلال أنها أصدرت أكثر من 4000 أمر حبس مؤقت بموجب قانون المقاتلين غير الشرعيين، وأفرجت عن أكثر من 1500 معتقل من غزة، وأصدرت أكثر من 2000 أمر حبس دائم. وشهد معظم المعتقلين المفرج عنهم بأن جميع ممتلكاتهم، بما في ذلك الحُلي والأموال والبطاقات الائتمانية، استولى عليها جيش الاحتلال عند نقاط التفتيش أو لحظة اعتقالهم، حتى أولئك الذي خرجوا إلى مدينة غزة بتنسيق مع جيش الاحتلال ومنظمات الأمم المتحدة، كما جرى مع اثنين من موظفي شركة جوال.
وتفيد شهادات المُفرج عنهم إلى جانب الصور التي بثها جيش الاحتلال خلال اجتياحه البري لمدن القطاع، أن جميع أسرى الحرب اعتقلوا عراة إلا من ملابسهم الداخلية، مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين، وأجبروا على البقاء راكعين في العراء لفترات طويلة قبل نقلهم بالشاحنات لمعسكرات اعتقالات أعدت خصيصاً لذلك، وفق ما أظهرت صور نشرها جنود الاحتلال على منصات التواصل الاجتماعي، فيما يعد اعتداء على الكرامة الشخصية وجرائم حرب وفق القانون الدولي. وجميعهم تم احتجازهم سراً من دون اطلاعهم على سبب احتجازهم أو السماح لهم بالاتصال بمحامٍ أو الوصول إلى مراجعة قضائية فعالة.
سياسة القفل
ويقول معتقلون كتب لهم النجاة من جحيم المعتقلات الإسرائيلية، أن مرحلة الاحتجاز الأولية تمتد بين بضع ساعات ويوم أو يومين، ينقل جيش الاحتلال خلالها المعتقلين إلى معسكرات ومراكز اعتقال، شملت مرافق اعتقال داخل ثكنات عسكرية إسرائيلية ومرابض للطائرات، بما في ذلك قاعدة سديه تيمان العسكرية في صحراء النقب، وقاعدة “عنتوت” العسكرية شرقي القدس، وزكيم شمالي قطاع غزة، وسجن عوفر، وسجن عسقلان. وفي حين أن ظروف اعتقال الفلسطينيين المعتقلين في سجون الاحتلال كانت مريعة قبل 7 تشرين، اتبع الاحتلال بعد ذلك التاريخ “سياسة القفل” مع أسرى الضفة الغربية الأمنيين التي تتضمن إغلاق غرف السجن والعزلة التامة، وتقليص سبل العيش وتعريض الأسرى إلى عنف وإذلال بطريقة منهجية مبنية على سياسة انتقامية.
وتوثق العشرات من روايات المعتقلين لمؤسسات حقوقية فلسطينية ودولية عن تفاصيل عن أساليب التعذيب التي يعترض لها ويعيشها معتقلي غزة يوميا داخل معسكرات الاعتقال الإسرائيلية بمعزل عن العالم الخارجي، من أجل نزع اعترافات قسرية بأنهم مقاتلين في كتائب القسام أو على صلة بأعمال المقاومة، أو للإدلاء بمعلومات عن الأنفاق وقيادة حركة حماس، وأماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.
تعذيب جسدي وجسدي ونفسي
وتتمثل تلك الأساليب في استخدام العنف الجسدي والنفسي بما في ذلك الجنسي؛ من احتجاز في مرافق تشبه الأقفاص، وقد جُردوا من ملابسهم لفترات طويلة، وارتدوا الحفاضات فقط، مقيدي الأيدي، ومعصوبي الأعين لساعات طويلة، وضرب على كافة أنحاء الجسد، وإطفاء سجائر على رقاب الأسرى وظهورهم، وقيام جنود بالتبول عليهم، واستعمال الصعقات الكهربائية ضدهم، وتكبيل أيديهم وتدلّي أجسادهم من السقف، وإجبارهم على الركوع على الحصى، وتعريضهم لنهش الكلاب، والإيهام بالغرق، وإعطائهم حبوبا مهلوسة، والتعريض لموسيقي صاخبة داخل غرف مغلقة، والاحتجاز داخل غرب شديدة البرودة.
وتوثق شهادات الناجين من جرائم التعذيب تعرضهم لعنف وإهانات جنسية، شملت التعري القسري لكل من الرجال والنساء؛ والضرب عاريا، بما في ذلك الضرب على الأعضاء التناسلية؛ وصعق الأعضاء التناسلية والشرج بالكهرباء؛ وإجبار هم على الخضوع لعمليات تفتيش مهينة متكررة؛ وانتشار الإهانات والاعتداءات الجنسية؛ والملامسة غير الملائمة للنساء من قبل كل من الجنود والمجندات، وممارسة التعذيب عن طريق استخدام أدوات وإدخالها في فتحات الشرج للمعتقلين، وهناك شهادات وفيديوهات مفادها أن بعض المعتقلين الذكور شبه عراة ومعصوبي العينين ومقيدين الأيدي تم تصويرهم بشكل متعمد في مواقف مهينة ونشرها الجنود على حساباتهم في شبكات التواصل الاجتماعي.
كما توثق إفادات ضحايا الاعتقال أساليب إذلال وسوء معاملة، كمنع مواد النظافة والتقيد بالاستحمام لمدة دقيقة واحدة فقط ما تسبب بانتشار مرض الجرب بين المعتقلين، والبصق داخل فمهم، ومنعهم من الذهاب إلى المرحاض واضطرارهم إلى التبول على أنفسهم، والإجبار على تقبيل العلم الإسرائيلي، وترديد كلمات “النشيد الإسرائيلي/ هتكفاه”. كما جرى تعريض المعتقلين لعملية تجويع بحرمانهم من الغذاء والنوم والماء، ما تسبب في انخفاض أوزانهم، وتقليل مناعتهم تجاه الأمراض، نتيجة سوء التغذية.
قتل ممنهج وإخفاء قسري
وحتى اندلاع حرب الإبادة كان واقع الرعاية الصحية للأسرى يوصف بـ “الإهمال الطبي” غير أن هذا الوصف لم يعد دقيقاً؛ كما تؤكد العديد من التقارير، إذ تظهر شهادات الضحايا بعد 7 أكتوبر 2023 واقعا مروعاً لانعدام الرعاية الصحية تماما، في سلوك ممنهج يرمي إلى ترك الأمراض تنهش أجساد الأسرى حتى الموت. فحتى 31 أغسطس 2024 استشهد 24 معتقلاً من قطاع غزة ممن عرفت هوياتهم نتيجة التنكيل الممنهج، وفق معطيات هيئة شؤون الأسرى والمحررين، بينما تفيد معطيات المدعى العسكري الإسرائيلي في مايو/أيار أن الشرطة العسكرية تحقق في وفاة 35 معتقلا من غزة.
ومع رفض سلطات الاحتلال تقديم معلومات بشأن مصير أو مكان وجود معتقلي غزة، تكشف المعطيات المتضاربة عن أعداد المعتقلين الشهداء عن عمليات إخفاء قسري لهويات المعتقلين، وإخفاء لهويات العشرات من الشهداء بين صفوف الذين ارتقوا في السجون والمعسكرات الإسرائيلية، حيث لا يوجد رقم نهائي ودقيق لأعدادهم حتى اليوم، هذا عدا عن معتقلين تعرضوا لعمليات إعدام ميدانية. وبينما تؤكد منظمة أطباء لحقوق الإنسان الإسرائيلية (PHRI) أن بعض المعتقلين استشهدوا دون توضيح أي ومتى حدث ذلك، تذكر أن بعضهم كان من المصابين بأمراض قبل الاعتقال، وبعضهم استشهد إثر إصابته في الحرب.
وتؤكد شهادات الضحايا حرمان المعتقلين من الحصول على العلاج الطبي، وإلغاء إمكان الخروج لتلقي الرعاية الطبية في المستشفيات، أو تعرضهم لعمليات جراحية أو خياطة من دون تخدير، أو بتر للأطراف بسبب التعذيب. وتنقل المنظمة الإسرائيلية (PHRI) أن أطباءها شاهدوا تشريح جثث خمس شهداء استشهدوا أثناء اعتقالهم، وفي اثنتين من الحالات الخمس، أبلغت المنظمة عن وجود علامات تعذيب جسدي، بما في ذلك كسور في الأضلاع، وفي حالة ثالثة تم تقييم أن سبب الوفاة بالإهمال الطبي نتيجة التعذيب دون تقديم الرعاية الصحية.
“}]]