[[{“value”:”
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
عانى اقتصاد قطاع غزة من تدهور طويل الأمد بسبب الحصار والتهميش، فحتى ما قبل الحرب، أشار تقرير للبنك الدولي في مايو 2023 إلى أن أكثر من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأزيد من نصف القوى العاملة تعاني من البطالة، فكيف أصبح حال القطاعات الاقتصادية كافة بعد عام من حرب الإبادة، وإلى أي مسار قد يقود القطاع.
ولندرك حجم الكارثة الاقتصادية التي أحدثتها الحرب الإسرائيلية في غزة، لابد من التعريج على الحالة الاقتصادية لقطاع غزة، حيث عانى من أزمات العجز في إمدادات الماء والكهرباء، وارتفاع تكلفتها وعدم انتظامها، وتحديات اجتماعية واقتصادية ذهبت بمعدل البطالة إلى نحو 46%، والفقر 26.5%، ويتلقى 83% من العاملين أجرا أقل من الحد الأدنى للأجور، وفق معطيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وتسبب ذلك في انحسار قطاع الزراعة، وتراجع الصناعة، اللذين يشكلان عضدي الاقتصاد، وأدى هذا إلى ضعف القدرة على إحداث تنمية حقيقية في قطاع غزة، وجعل الهيكل الإنتاجي فيه مشوها، ويميل للشكل الخدمي، وينحرف عن مقصده الإنتاجي، ويعمل بأقل من قدرته الإنتاجية الطبيعية بكثير، على الرغم من امتلاكه ثروة هائلة من الغاز الطبيعي قبالة سواحله والتي اكتشفت في تسعينيات القرن الماضي.
وبعد حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ عام، تدهور الوضع الاقتصادي، وأخذت المؤشرات الاقتصادية الرئيسة في القطاع بالانحدار بتسارع شديد. فمع نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، أظهرت التقديرات المبكرة انخفاضا حادا في الظروف المعيشية، إذ بلغ معدل البطالة 79.3%، وارتفع معدل الفقر بين الغزيين إلى حوالي 96%. أما إجمالي الناتج المحلي، ونصيب الفرد منه، فقد سجلا انكماشا بحوالي 24% و26% على التوالي مقارنة بالعام السابق.
وقد تأثر قطاع الصناعة بالدمار الواسع، وبقطع التيار الكهربائي المتواصل، وبانقطاع سلاسل الإمداد كذلك. فانخفض الإنتاج الصناعي لنحو 51 مليون دولار في الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بسابقه.
وحتى مايو/ أيار 2024، قدر البنك الدولي نسبة الأضرار والتدمير التي طالت القطاعات الاقتصادية المختلفة في غزة بنحو 73% لقطاع التعليم، و81% الصحة، 75% الخدمات البلدية، 55% المياه والصرف الصحي، و75% المعلومات والاتصالات، و63% النقل، و80% التجارة، و62% لقطاع الإنشاءات والإسكان.
انكماش اقتصادي وتضخم كبير
وبعد مرور عام على الحرب، تكشف تفاصيل تقرير البنك الدولي الصادر في 26 سبتمبر/ أيلول 2024، أن كل سكان قطاع غزة باتوا يعانون من الفقر مع بلوغ نسبته حاجز 100%، بالإضافة إلى تجاوز التضخم مستويات قياسية وغير مسبوقة.
ويقول البنك الدولي، في تقريره الذي يحمل عنوان “التحديث الاقتصادي الفلسطيني”، إن الأراضي الفلسطينية شهدت انخفاضا بنسبة 35% في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الأول 2024، وهو “الأكبر على الإطلاق”، حيث انكمش اقتصاد غزة بنسبة 86% خلال هذه الفترة، وبلغت البطالة في الأراضي الفلسطينية مستويات قياسية وتجاوزت 50%.
وبحسب التقرير، أدى توقف العمليات التجارية في غزة إلى ترك الأسر بلا دخل، في وقت ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، مع تجاوز نسبة التضخم حاجز 250%، كما ترك التوقف شبه الكامل للنشاط الاقتصادي القطاع في حالة ركود عميق، حيث انخفضت حصته من الاقتصاد الفلسطيني من 17%- في المتوسط بالسنوات السابقة – إلى أقل من 5% حالياً.
ويكشف التقرير عن تضرر كبير في النظام الصحي بقطاع غزة، حيث أدى تدمير البنية التحتية لإمدادات المياه والألواح الشمسية جنباً إلى جنب مع نقص الكهرباء والوقود للمولدات الاحتياطية والمدخلات الأساسية، إلى توقف 80% من مراكز الرعاية الأولية عن العمل، مشيراً إلى أثر التدمير الإسرائيلي للقطاع الصحي والمستشفيات تحديداً، حيث تعمل 17 مستشفى فقط (3 منها ميدانية) من أصل 36 مستشفى، توفر نحو 1500 سرير بمختلف أنحاء قطاع غزة، مقابل 3500 سرير كانت متاحة قبل الحرب، فيما يقدر متوسط إشغال الأسرة بنحو 300%.
أما على صعيد قطاع التعليم، فيشير التقرير إلى انهيار تام لنظام التعليم في غزة، حيث أصبح جميع الأطفال في سن الدراسة بغزة، والبالغ عددهم 625 ألف طفل، خارج المدرسة منذ 7 أكتوبر 2023، كما تظهر التقديرات الأولية أن ما يقرب من 95% من مرافق التعليم الأساسي والثانوي والعالي قد تضررت أو دمرت.
ثلثي الإنشاءات دمرت أو تضررت
أما على صعيد الإنشاءات، فتظهر صور التقطتها وكالة تحليل الأقمار الصناعية التابعة للأمم المتحدة (يونوسات)، أن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة قد تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب على غزة.
وتكشف معطيات الوكالة المنشورة بتاريخ 5 أغسطس/ آب، أن آخر تقييم للأضرار يكشف تضرر 151 ألفا و265 مبنى في قطاع غزة، مبينة أن هذا التقدير يستند إلى صور جُمعت في 6 يوليو/ تموز الماضي، وقورنت بصور سابقة ملتقطة في مايو/ أيار 2023.
ومن بين المباني المتضررة، تبين أن 30% منها مدمر بالكامل، و12% متضرر بشكل خطير، و36% متضرر بشكل متوسط، و20% متضرر على الأرجح، مما يعني أن نحو 63% من مجمل المباني في القطاع قد تعرضت لأضرار.
وتضيف “يونوسات” أن التأثير على البنية التحتية المدنية واضح، حيث تضررت آلاف المنازل والمرافق الأساسية. وذكرت الأمم المتحدة أن حجم الأنقاض الناجمة عن الحرب في غزة يقدر بنحو 41.9 مليون طن، وهو أعلى بمقدار 14 ضعفًا من إجمالي الحطام والركام الناتج عن الحروب السابقة على غزة منذ عام 2008. ويشير التحليل إلى وجود 114 كيلوغرامًا من الركام لكل متر مربع في قطاع غزة.
دمار المحرك الاقتصادي الرئيس
وبالتوازي، تقول منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” إن الحرب في غزة وضعت اقتصاد القطاع في حالة خراب وخلفت وراءها دمارا اقتصاديا في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة مدفوعا بالتضخم، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانهيار الدخول، والقيود المالية التي شلّت قدرة الحكومة الفلسطينية على العمل.
وشددت “الأونكتاد” في أحدث تقاريرها الصادرة في 12 سبتمبر/ أيلول 2024، أن حجم الدمار الاقتصادي المذهل والانحدار غير المسبوق في النشاط الاقتصادي، تجاوز بكثير تأثير جميع المواجهات العسكرية السابقة في القطاع منذ عام 2008.
وتقول الوكالة إن الناتج المحلي الإجمالي لغزة انخفض بنسبة 81% في الربع الأخير من عام 2023، مما أدى إلى انكماش بنسبة 22% للعام بأكمله، وبحلول منتصف عام 2024 انكمش اقتصاد غزة إلى أقل من سدس مستواه في عام 2022.
وتشير “الأونكتاد” إلى أن ما بين 80 و96% من الأصول الزراعية في القطاع ــ بما في ذلك أنظمة الري ومزارع الماشية والبساتين والآلات ومرافق التخزين ــ قد تضررت، مما أدى إلى شل القدرة على إنتاج الغذاء وتفاقم مستويات انعدام الأمن الغذائي المرتفعة بالفعل.
وبالإضافة إلى ذلك، يؤكد تقرير الوكالة الأممية أن 82% من الشركات في غزة، التي تشكل محركا رئيسيا للاقتصاد، قد دمرت في حين يستمر الضرر الذي يلحق بالقاعدة الإنتاجية وسط العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة.
كما فُقدت حوالي ثلثي جميع الوظائف، التي كانت موجودة قبل الحرب في غزة، بحلول يناير/ كانون الثاني من هذا العام، مما دفع عمليا جميع سكان القطاع تقريبا إلى الفقر ــ حيث كان 80% منهم يعتمدون على المساعدات الدولية قبل الحرب.
فجوة تمويل
ويضيف تقرير “الأونكتاد”، أن ما يزيد من تفاقم هذا الوضع هو الضغوط الهائلة على الاستقرار المالي للحكومة الفلسطينية. ففي عام 2023، انخفض دعم المانحين الدوليين إلى أدنى مستوياته عند 358 مليون دولار، مقارنة بملياري دولار في عام 2008.
وبالعودة إلى تقرير “التحديث الاقتصادي الفلسطيني”، يرجح البنك الدولي تفاقم فجوة التمويل لدى السلطة الفلسطينية، قد تصل إلى 2 مليار دولار في 2024 (أي ثلاثة أضعاف الفجوة في 2023)، مما يشكل مخاطر جسيمة على تقديم الخدمات وقد يؤدي إلى انهيار نظامي.
ويؤكد التقرير أن الحرب الإسرائيلية أدت إلى نقص حاد في السيولة النقدية في قطاع غزة، ما أثر على الوصول إلى المساعدات الإنسانية والخدمات المالية الأساسية.
وتقدر وكالة بلومبرغ الاقتصادية الأمريكية المختصة بالشأن الاقتصادي، أن عملية إزالة الأنقاض ستستغرق سنوات، وتكلف ما يصل إلى 700 مليون دولار، وأن هذه المهمة تزداد صعوبة بسبب وجود قنابل لم تنفجر، وملوثات خطيرة، وبقايا بشرية تحت الأنقاض.
وتقدر الوكالة في تقرير نشرته في 18 أغسطس/ آب الماضي، أن تكلفة إزالة الأنقاض والإعمار ستزيد عن 80 مليار دولار في عملية ستستغرق سنوات طويلة من العمل، لاسيما في مركز القطاع، حيث تعرضت مدينة غزة التي تعد أكبر مركز حضري في فلسطين، والمناطق المحيطة بها لأضرار جسيمة، وتشكل كمية الأنقاض فيها أكثر من نصف أنقاض القطاع.
وتؤكد الوكالة أن إعادة بناء غزة وحياة سكانها سيتطلبان إعادة هيكلة شاملة للبنية التحتية الأساسية بأكملها، وإيجاد حل سياسي لتحديد الشكل الجديد للقطاع.
ويقول دانييل إيجيل، الخبير اقتصادي كبيير في مؤسسة “راند” في كاليفورنيا، إن تكلفة إعادة إعمار غزة قد تصل أكثر من 80 مليار دولار، عند أخذ النفقات الخفية، مثل التأثير طويل المدى على سوق العمل الذي دمره الموت والإصابات والصدمات، في الاعتبار.
نظرة متفائلة
وفي نظرة متفائلة وغير متوقعة بالنظر إلى الصورة التي رسمتها التقديرات الأممية والدولية السابقة، يرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، أن قطاع غزة قادر على النهوض مجدداً، بالنظر إلى الكفاءات البشرية التي يمتلكها، على الرغم من تراجع مؤشر التنمية البشرية بفعل خسارة الشباب والقوى العاملة لفرص العمل، حيث بلغت خسائر الناتج المحلي الإجمالي حين صدور التقرير حوالي 7.6 مليارات دولار.
ويقول البرنامج في تقريره الصادر في 2 مايو/أيار الجاري حول تقديرات الوضع في غزة وحجم الآثار التدميرية على الفلسطينيين والاقتصاد والتنمية البشرية، إنه وبالرغم من هذه الخسارة الكبيرة والمتصاعدة إلا أن ارتفاع مستويات التعليم، وتوفر العمالة الماهرة، تمثل نقاط قوة في كفة الغزيين، إضافة إلى امتلاكهم ثروات طبيعية من موارد بحرية وحقول غاز طبيعي وغيرها.
وفي المقابل، يؤكد التقرير حاجة قطاع غزة الماسة إلى حزمة إجراءات تنموية، ولنموذج استرشادي لتجربة أحد البلدان الإقليمية أو الدولية، التي مرت بظروف شبيهة من الصراع والدمار، وانعدام الأمن والاستقرار، وتمكنت من أن تحدث تغيرا ملموسا، وتحقق تنمية اقتصادية، وتنهض بظروفها المعيشية.
وقد شهد التاريخ الحديث عددا من التجارب النهضوية لأمم لم يكن بالإمكان التصور يوما ما بأن يكون لها مستقبل اقتصادي، بعد أن رزحت عقودا في قاع الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستطاعت خلال فترة قياسية أن تقفز قفزات هائلة جعلتها تتحول للاعب أساسي بين الاقتصادات، كتجربة إعادة إعمار أنغولا بعد انتهاء الحرب، وتجربة نهوض رواندا بعد إنهاء الاستعمار وتوقف الحرب الأهلية عام 2000، ومعجزة انتعاش اقتصاد فيتنام التي بدأت بعد انسحاب القوات الأميركية منها عام 1974، إضافة لنموذج تطور ماليزيا وسنغافورة بعد خروج الاستعمار البريطاني منهما.
“}]]