[[{“value”:”
غزة المركز الفلسطيني للإعلام
في غزة، قصص الألم لا تنتهي، وأصوات القهر تُسمع كل لحظة في القطاع الذي تعصف به الإبادة الجماعية منذ قرابة عام وعلى مرأى ومسمع من العالم دون أن يحرك ساكناً.
قبل الحرب، ألقت أعباء الحياة الثقيلة والحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ 17 عاما بظلاله على حياة الشباب، وفرض عليهم واقعًا مليئًا بالتحديات من أجل تحقيق مستقبل أفضل لهم ولأطفالهم، لكن تلك المحاولات دفنت كما أصحابها تحت أنقاض المنازل التي شيدت بكثير من الأمل والأحلام والطموحات.
محمود صافي (38 عامًا)، كان أحد أولئك الشباب الذين عرفوا بطموحهم وإصرارهم، فقد عمل شرطياً في الحكومة الفلسطينية في غزة، وأيضًا في التسويق الإلكتروني والأعمال الحرة عبر الإنترنت. كان خريج كلية تكنولوجيا المعلومات من الجامعة الإسلامية في غزة.
يقول والده، شكري صافي، إن محمود كان متفوقاً في دراسته وحياته، طموحه لم يعرف حدودًا. فبعد تخرجه التحق بجهاز الشرطة ثم بدأ بالعمل التجاري الإلكتروني الحر لتحسين وضعه المادي وتحقيق حلمه ببناء فيلا.
اشترى محمود قطعة أرض في منطقة الحي النمساوي غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وبدأ ببناء المنزل الذي لطالما حلم به، “تعب شهورًا في بناء منزله، واضعًا لمسات خاصة عليه بحماس كبير”، يقول والده.
ومع بدء هجوم جيش الاحتلال الإسرائيلي البري الكبير على خان يونس في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2023، تعرض المنزل الذي تواجد به محمود وشقيقه أنس لقصف جوي في يناير، مما أدى لاستشهادهما.
تبكي زوجته وهي تستحضر الحلم الذي عاشاه معاً، وتقول: “سكنا في المنزل عام 2022، ولم نهنأ به. كان حلماً لنعيش سعداء، ولم أكن أعرف أن زوجي سيموت فيه”.
وتضيف أن الجدران ليست أغلى من حياة زوجها، الذي ترك لها طفلين، يحيى (8 سنوات) وسارة (عامين).
طفله يحيى رفض الحديث لمراسلنا. تقول والدته إنه وشقيقته يفتقدان والدهما يوميًا ويدخلان في حالات صعبة تنفطر لها القلوب.
فقدان عمر بأكمله
صديقه، محمود الحداد، يقول: “أمضى محمود وقتًا طويلاً في بناء حياة جيدة لعائلته، ولم نتوقع يومًا أن يُستشهد في المنزل الذي طالما أنفق عليه، وخطط لتجهيزه بدقة”. ويستدرك قائلاً: “هذا احتلال مجرم يقتل الحياة والحلم، ويمارس أبشع الجرائم”.
ويضيف أنه يدرك تماماً ماذا تعني هذه الخسارة، ففقدان الزوج والبيت أمر كبيرة بالنظر إلى المعاناة التي يتكبدها الناس في غزة بالأحوال العادية من أجل تشييد منزل، “فقدان المنزل يعني فقدك لجهد عمره سنوات لتعمير هذا البيت، فقد لذكريات جميلة تخصك أنت وأفراد عائلتك، فقد للأمن والأمان والمأوى”.
وبعد نحو 11 من اندلاعها، تسببت حرب الإبادة المستمرة في غزة باستشهاد أكثر من 40 ألف فلسطيني، 24% منهم من فئة الشباب، وفق معطيات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في اليوم العالمي للشباب الذي يوافق 12 أغسطس من كل عام.
وتقدر المعطيات أن معدل النمو المتوقع في قطاع غزة لعام 2023 سينخفض من نحو 2.7% إلى نحو 1% فقط خلال عام 2024 وتحديدا بعد منتصف العام.
كما ستنخفض معدلات المواليد والإنجاب بصورة كبيرة جدا نتيجة لتوجه الأزواج لعدم الإنجاب نظرا للأوضاع السائدة، وخوفا على صحة الأمهات والأطفال، وانخفاض عدد حالات الزواج الجديدة خلال الهجوم الإسرائيلي إلى مستويات متدنية للغاية.
لن ننجب أطفالاً
وتحمل أسماء الغريب هذا التوجه، وهي أم لطفل واحد احتفلت بيوم ميلاده قبل أيام. وتقول إنها لا تفكر بالإنجاب حتى سنوات قادمة.
وتضيف الأم البالغ من العمر 30 عاما، إنها وزوجها اتفقا على ذلك، “لا نريد أن ننجب أطفالاً لا نملك منزلاً يأويهم”.
ودمرت الحرب شقة أسماء السكنية في حي الرمال وسط مدينة غزة، التي عملت بنفسها على تصميها بعناية، فهي مهندسة معمارية متخصصة في التصميم الداخلي. ولا تزال تحتفظ بمفاتيح بيتها كرمز لخسارتها الكبيرة، وهو تقليد يعود إلى النزوح الجماعي إبان النكبة عام 1948.
ومعظم سكان قطاع غزة هم من اللاجئين أو من نسل اللاجئين الذين فروا أو طردوا من منازلهم خلال حرب عام 1948 التي رافقت إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين.
وتقول أسماء إن خسارة المنزل ليس مجرد تدمير هيكل مادي؛ إنه محو للأمان والذكريات والأمل بالنسبة للكثيرين، “كنت أسمع أبي يقول دائما أن الناس تبني بيوتها من صدأ أسنانها. كنت استغرب من هذا المثل”.
وتستدرك قائلة: “لكني أدركت معناه عندما تذكرت ما بلذته وزوجي من أجل بناء بيت يشعرنا بالراحة النفسية والاجتماعية، وكيف امتنعنا عن الكثير من الأشياء لأجل ذلك، وهو مثل بليغ جدا وكأن الأسنان تصدأ من قلة استعمالها”.
وتمضي بالقول: “المنازل ليست مجرد مبانٍ، بل ملاذات مليئة بالحياة العائلية حتى لو كان البيت مليئاً بالمشاكل. فعندما يُدمّر المنزل تضيع تجربة حياتية كاملة”.
تشوه التركيبة السكانية
ويتوقع الإحصاء الفلسطيني أن يتأثر التركيب العمري والنوعي لسكان قطاع غزة مباشرة نتيجة لاستهداف جيش الاحتلال لفئات محددة من السكان كالأطفال، والشباب (18-29 عاما) والذين يشكلون 22% من إجمالي السكان، مما يؤدي إلى تشوه في شكل الهرم السكاني خاصة في قاعدته.
كما أن هناك تأثيرا متوسط وبعيد المدى يرجح أن يطال التركيب العمري للسكان يتمثل بانخفاض عدد المواليد للسنوات المقبلة والذين يمثلون القاعدة الأساسية للهرم السكاني، نتيجة لاستهداف فئة الشباب والتي تنجب أو التي يتوقع أن تساهم في إنجاب الأطفال خلال السنوات المقبلة.
وتسببت الغارات المتكررة والحصار المشدد في تدمير البنية التحتية والتعليمية، مما حد من فرص الشباب في التعليم والعمل. بات العديد منهم مضطرين لتحمل مسؤوليات كبيرة، حيث فقدوا أفرادًا من أسرهم أو منازلهم، واضطروا للعمل في ظروف صعبة لتأمين لقمة العيش.
ومن بين هؤلاء عبير أحمد مصممة الأزياء، التي تقول إنها “واجهت العديد من التحديات في الحصول على أدوات الخياطة الأساسية مثل المقص وأشرطة القياس والخيوط والأزرار والأقمشة المناسبة، بالإضافة إلى انقطاعات التيار الكهربائي ما يعيق أعمال الخياطة”.
وتضيف عبير أنها تقوم بالبحث باستمرار في جميع الأسواق مثل سوق الدير للعثور على الأقمشة وأدوات الخياطة الإضافية اللازمة لتلبية احتياجات الأطفال من الملابس.
وعلى الرغم من كل تلك التحديات تؤكد عبير أنها عازمة على مواصلة جهودها من داخل خيمة في مواصي خان يونس.
وتفيد تقارير منظمات دولية، بأن 70% من المباني السكنية والشركات والمستشفيات في قطاع غزة، تعرضت للدمار أو لأضرار بالغة.
وتقول وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية إن أغلب الأنقاض تتشكل من المساكن التي دمرت، ففي محافظة خانيونس وحدها سوف يتعين إزالة ما لا يقل عن 8.5 مليون طن من الأنقاض. أما مدينة غزة التي تقع في شمال القطاع، فإن حجم الدمار فيها يشكل أكثر من نصف حطام القطاع.
ووفقاً للتقييم، الذي نشره برنامج الأمم المتحدة للبيئة في يوليو/ تموز الماضي، فقد تضرر 137.297 مبنى في غزة، أي أكثر من نصف العدد الإجمالي، مبيناً أن أكثر من ربع المنازل المستهدفة تدمرت بشكل كلي، وحوالي عُشرها تعرض لأضرار جسيمة والثلث تعرض لأضرار متوسطة.
“}]]