[[{“value”:”
أصبح واضحاً جداً أن النقاش الدائر بين الهجوم والدفاع حول أي موضوع يتصل بالخلاف المذهبي الطائفي سينتهي به الأمر إلى انسداد عقيم لا علاقة له بالموضوعيّة أو الواقعية أو إقناع الخصوم، بقدر ما هو نقاش تاريخي لا يبرد أبداً، ثم يتجدد ليحمل بصمات الحاضر وتعقيداته وتجاربه وطابعه التاريخي المصبوغ بانعدام الثقة واستحالة التلاقي.
وقد كان يمكن أن تُدار حدود هذا الخلاف القديم بأدوات منهجية عقلية تجعل لكل تجربة خصوصيتها، وتراعي المصالح المشتركة، وترسم مسارات التعامل الممكنة والمرفوضة بهدوء، وتحدد زوايا الانطلاق… لكن الطابع السياسي المتجدد لهذا الخلاف الديني التاريخي، والاستخدام السياسي غير النظيف لهذا الخلاف جعل العلاقة تحت النار دائماً، ولا شك أن ان انعدام التجارب التاريخية الإيجابية بين الفريقين قد جعل الأمر في تصنيفات المستحيل.
لكن ثمة شيئاً حادثاً في هذه العلاقة السلبيّة المزمنة قد دخل ليمنح فرصة نادرة لتصحيح هذه العلاقة في جانبها السياسي على الأقل، أو يفتح لها فضاء جديداً لتعاملات استراتيجية مبنية على مصالح مشتركة، لاسيما أن أصل العلاقة بين الناس قائمة على التعارف والتعاون واستثمار المشتركات، وهذا الحادثُ الكبير يتعلّق بالمستوى العالي من التنسيق والتعاون في واحدة من أكبر القضايا التي تهم الأمّة وتشغلها، حيث انخرطت القوى الحيّة في تلك الطائفة بقوة في القضية الفلسطينية رغم عدم وجود رافعة طائفيّة شعبيّة تستثمر فيها تبشيريّاً وفق رؤيتها، وأثبتت التجربة العمليّة أنها شريك سياسيّ وعسكريّ وأمنيّ حقيقيّ للنضال وفق قناعة حركات النضال العريقة التي ما تزال تكافح إلى الآن بأعلى نمط عسكري متوفر، وقد تجلّى بوضوح في معارك الطوفان خصوصاً مع ظهور الخذلان العام ممن كان يُنتظر منهم النصرة من المحسوبين على جماهير الأمّة.
التأطير المنهجيّ الواقعيّ لتحالف المناضلين
إن القرارات ذات الشعبيّة الجماهيرية أو المحايدة هي الأسهل في نمط اتخاذ القرار القياديّ، ولكن القرارات الحسّاسة في قوائم الضرورات أو الاحتياجات الخاصّة مما لا يُصنّف ضمن الحياد أو الشعبية هي القرارات التي تكشف أهليّة القيادة وقدرتها على التخطيط والإدارة والتنظيم والاستجابة.
وأعسر القرارات هي القرارات التي تتفاعل معها الجماهير القريبة والمحيطة بانفعالٍ سلبيّ رغم الاحتياج الشديد لها، إذ إن ذلك يضعف القيادة كثيراً، ويسبب لها حرجاً بالغاً قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على مشروعها.
ويبدو القرار غير الشعبي أصعب في الاعتبار والتفاعل والحضور إذا تعاملت معه الجماهير والأنصار على أنّه يناقض المبادئ والأخلاق، أو يعطي صورة سالبة لا تعبّر عن حقيقتهم وطبيعة حاضنتهم.
ولا شك أن الحواضن الشعبية تتعامل مع الظواهر والمعطيات المتاحة وتقارنها بسرعة مع أدبيّاتها العامّة، ولا يمكن في الوقت نفسه أن تحظى بمعطيات خاصة، فهذه الخصوصيات محلّها في طبقات اتخاذ القرار والمشورة فيه لخطورة تسريبها إلى محيط مفتوح يتعرّض للاختراق المتصل.
ولهذا فإن دوائر النخبة القياديّة تُبقي الدائرة مغلقة بقدر الإمكان، وتنفتح بشكل محسوب على مستويات قيادية شعبيّة متدرّجة تعينها في سلوك المحطات الفاصلة الصعبة وصولاً إلى تفهّم القرار وإدراك خصوصياته ومدى الاحتياج إليه.
وأنت عندما تتحرّك ببطء أو بسرعة نحو هدفٍ ما تحت النار الكثيفة فإن عينك على الهدف الأعلى، وعلى تقدير الخطوات الأسلم والأقلّ كلفة للوصول مع ضمان تحرّك مسارك في مؤشر صاعد، حتى لو تأخّرتَ أو تراجعتَ قليلاً أو انحزتَ إلى فئة.
ولم تعُد القضايا الجدليّة والخلافيّة تشكّل لدى قادة الميدان أرقاً إذا لم تكن نتائجها مفيدة على أرض الواقع، بل إن ثمة تقديراً عامّاً يجعل هذه القضايا من النوعيّة الانصرافيّة التي يخطط لها العدوّ ويؤجّجها في سياق الحرب المعنويّة التي تستهدف الحواضن بغرض قلبها على منظوماتها العاملة وزيادة الشحن الخلافيّ فيها.
ربما تنظر هذه الحركات الوطنية التحررية في هذا الطوفان إلى نفسها بهذه الطريقة، وأي متفرّج من البعد يمكنه توجيه النظر والانتقاد لأحوالها المختلفة، لكن النقد المؤسَّس هو الذي ينظر إلى الهدف وطبيعة الطريق وظروف العبور وقدرة العابر معاً دون تفريق وفرزٍ.
في الوقت نفسه فإن أحداً لا يستطيع أن يطلب ممن عانى من أي جهة ظلمته أو قهرته أن يغير موقفه أو يسكت عن المطالبة بحقّه ومواجهة العدوان عليه حتى لو كانت هذه الجهة الظالمة هناك تمارس عملاً إيجابياً وسياسة مفيدة في موضع آخر، فهذه أنانيّة مرفوضة، وتناقض صارخ؛ فكما أن لك قضيّةً تعدّها عادلة فإن لدى الآخرين قضاياهم العادلة وسياساتهم الخاصّة ومشكلاتهم الحيويّة، بل ينبغي تفّهم مواقفهم ومحاولة مساعدتهم إذا كان ثمة فرصة للمساعدة وردّ الحقوق وتصفية الخلافات، وينبغي التواصل معهم على الدوام لتفهيمهم منهجيّة إدارة الأزمات وبناء العلاقات في زمن الحرب؛ ولا يَدخل في هذا الاعتبار أولئك النفر المنغمسين بالتحريض الطائفي الانفعاليّ أو التحريض المسيس الذي بات أداة فعّالة في منظومات السيطرة والتحكم .
لا تجد حركات النضال نفسها مذنبة أو مدانة إزاء ذلك في أصل اعتبار المواقف لديها، ومبادئ تنظيم العلاقات عندها:
• فهي لم تكن جزءاً من الحرب الطائفيّة في أيّ مكان، ونأت بنفسها تماماً، ونالت أذى كثيراً جراء موقفها المبدئيّ تجاه سفك الدماء البريئة والقهر السياسي والأمنيّ والاجتماعيّ.
• ولم تكن جزءاً من أي مذهبيّة دينيّة أو سياسيّة، وهي معروفة بشدة اتباعها لمذهبها ووعيها به ورفض أي محاولة لاختراق الشعب بأي فلسفة مذهبية وافدة.
• أنها في قلب معركة فاصلة وجوديّة ذات سياق حيويّ تفاعليّ متغيّر، ولديها خصوصيّة ميدانيّة طارئة تُدخلها في أحكام الضرورات والاستثناءات والمعاملات الخاصة، وتنأى بها عن الأحكام الطبيعية ونقاشاتها، وقد تتطور التجربة لتتحول إلى فاصلة وحدويّة تجمع أهل القبلة على مشتركات إيجابية جديدة تتجاوز بعض عقد الماضي، وتؤسّس لثقافة نسبيّة جامعة غير مفرّقة تعزّز الثقة والطمأنينة بين المذاهب التي تؤمن بخطّ مواجهة الأعداء المشتركين.
سياسياً:
من الواضح أن حركات النضال حسمت خيارها بالاصطفاف الاستراتيجي مع من يؤمن بحقها في تحرير ديارها وبنمطها الكفاحيّ المقاتل، ومن يشاركها في الميدان، ويقاتل معها في الخنادق، وقد قررت أن تنفتح عليها سياسياً دون تحفظات أو تخوفات من ردود فعل المحور الآخر الذي قلب الطاولة عليها دون مبرر، ويتعامل معها برفضٍ وعدوانيّة، كما أنها قررت أن تتجاوز عقدة تبرير مواقفها الدائم والمتكرر لحاضنتها وأنصارها الذين يضغطون عليها باتجاه مسار مثاليّ لا تراه مفيداً ولا عمليّاً ولا شرعيّاً.
وتعتمد فلسفة الانحياز الأخير لحركات النضال بأنها حركات تحررية مقاتلة بالأساس، وهي متهمة بالـإرهـ.ـاب، وحدود حركتها العامة محدودة، وهي تسير عكس التيار السائد في المحيط العربي الخاضع للرؤية الأمريكية المتطابقة مع رؤية العدوّ، كما أنها لا تمتلك قدرات جيوش ولا أسلحة ثقيلة متقدمة، وليس معها حلفاء استراتيجيون من ذوي الهويّة الفكرية المشتركة في جغرافية عملها المباشرة، وليس لديها عمق في الأرض القريبة المحيطة، وبالتالي فإن انحياز هذه الحركات سيكون لمن يكون معها في الميدان الضيق، ويقدم لها السلاح والدعم والإسناد الحقيقي، وليس من يفرض عليها الشروط ويجرّها إلى مربعه الذي لا يقترب من رؤية الاستقلال والتحرّر، أو من يتظاهر بإسنادها دون تقديم دعم فارق، أو يقدّم دعماً معنويّاً وهتافاً لا يناسب زمن الحرب الطاحنة.
ومن الواضح لدى هذه الحركات بالتجربة الطويلة أن حلفاء المحور داعمون بشكل ثابت للنضال سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، وسقفهم السياسي لا يقل ارتفاعاً عن سقف حركات التحرر، وبقي خطّهم في الدعم ثابتاً في مبادئه وانحيازاته في مفاصل الصراع، وإن كان متردداً في مستواه نتيجة الخلاف في بعض الملفات الإقليمية في مرحلة سابقة.
اقتراب حركات النضال من المحور الأقرب لتوجهاتها محسوب بحسابات استراتيجية، وهذا الاقتراب قد استقرّ المشهدُ فيه على أنّه ليس خصما على أي علاقة مع أي من مكوّنات الأمة، وذلك استناداً إلى قاعدة عمليّة أثبتت فاعليّتها: “الاتفاق معها في ميدان الاشتباك وعملياته، والافتراق عنها في ميادين عملياتها الأخرى”.
ومن الواضح أن حركات النضال حسمت خيارها باتجاه رسم التحالفات الواضحة في خطوط الاتفاق المعلومة مع ثبات استقلالها عنها في خطوط الافتراق المحسومة.
هذا لا يعني أن المحور يعطي حركات النضال شيكات مفتوحة أو العكس، بل ثمة الكثير من الإشكالات والتعقيدات في تفاصيل العلاقة وتجارب المعنيين بإدارتها، لكن جوهر التفاهم هو الالتقاء في مربع النضال من خلال الإسناد الثابت في مبادئه.
ما زال لدى هذا المحور تحفظات على حركات النضال وتخوفات منها لكونها مختلفة عنها إيدلوجيّاً، خاصّة أن هذه الحركات لديها مؤسسات قوية ومناعة داخليّة تحصّنها من الانزلاق نحو ارتهان المواقف؛ ولكن يُحسب للمحور أنه لم يسع للسيطرة على الحركات القويّة أو محاولة تأطيرها فكريّاً أو اختراق منظومة القيادة فيها أو إكراهها على موقف لا تتبناه، رغم حرصه على التأثير فيها ضمن مساره الاستراتيجي العام.
التجارب الميدانية الطويلة تعطي انطباعاً قويّاً بأن كل فريق يتفّهم خصوصيّة الآخر وحدوده ومصالحه، ويسعى للتقارب في محطات الاشتراك والتلاقي الميدانية الكثيرة أكثر مما يبتعد في محطات الافتراق القليلة في ميدان العمل .
مقاربة حركات النضال مقاربة جريئة وصادمة لمن يتعامل معها بميزان أخلاقيّ حساس ولا يتناوله بميزان السياسة المرن والفضاء الاستراتيجيّ الذي يستوجب عليها هذا الموقف، ويجعله طبيعياً واقعيّاً.
وسلوك هذه الحركات الجريء يجعلها أكثر انسجاما مع ظروفها وعوامل القوة والضعف فيها وكونها حركات ثورية تحررية ليس لديها ترف العمل السياسي والشعبيّ القليل الكلفة في المعارضات السياسية العادية، ولا ترى في مستوى اللغة أو الأداء الميداني لتطوير العلاقة ما يضر بفلسفتها ومبادئها كما لم تعد ترى في إعلانات تأييدها أو مجاملات دعمها فائدة إذا لم تترجم العواطف التضامنية إلى مواقف عملية أو تأتي في سياق سياسي مفيد.
تبقى لغة الخطاب والمجاملة السياسية والسلوك الإعلاني – إنشاءً أو ارتجالاً – شأناً عاماً قابلاً للنقاش والنقد الحيويّ، وهذا النقاش يدور داخل هذه الحركات أكثر مما يدور خارجها في محاولةٍ لضبط حدود المعاملة وإبقائها ضمن السياق السياسي الدقيق لاسيما أن مواقف دول المحور لا تحظى بشعبية أو تفهّم في قضايا الافتراق، ولا ينبغي التشدد في رفض النقاش حول الأعراض والظواهر، فهو نقاش حيويّ يعيد تأكيد الحدود المتفق عليها، ويحفظ الهويّة.
تتفهّم حركات النضال غضب المتأثرين من مستوى علاقتها بدول المحور المؤيد للنضال وحلفائه، ولا تستطيع أن تفعل الكثير لمعالجة هذا الغضب، وهي تعوّل على فهم النخب القيادية لأدائها في السياق السياسي والاستراتيجي، وهي ليست في حاجة للانخراط في مشروعات اجتذاب مواقف جماهيرية تحظى بالشعبية بينما هي في قلب المعركة الوجوديّة.
هذا السلوك السياسي في نظر حركات التحرر لا يغطي خطيئة أحد ولا يبرر جريمته في أماكن الافتراق ولا يبرر له سلوكه بأي حال، وهو سلوك سياسي تتعاطاه النخب والقيادات في كل دهر بفهم منقول مأثور يؤيده العقل والنقل وتجارب التاريخ الإنسانية.
وهذه السياسة في العموم تحظى بتفهّم دول صديقة ذات وزن إقليمي، وتفهّم أحزاب سياسية ودينية عريقة ذات توجّه معتدل، وهي مرتاحة لوجود ظهر قوي معها يعينها على تجاوز التضييق الدائم عليها، وتنظر لحركات النضال أنها تجاوزت مرحلة المراهقة العاطفية التي أضرت بثورات كثيرة ذات أحقية وعدالة.
ربما لم تنجح حركات التحرر على ما يبدو في إثبات فاعلية نظرية الأمة المساندة والحاضنة الطبيعية في أي محطة تاريخية دخلتها أو معركة عنيفة خاضتها، بل إن هناك تشكيكاً كبيراً بإمكانيّة تجنيد قدرات الأمّة في سياق المعركة الطويلة، لاسيما أنّ الأداء العام لسلوك مفردات الأمة وحركاتها ودولها كان خاضعاً تماماً للجغرافيا السياسية وحدودها وأنظمتها غير الصديقة؛ بل كانت الأمة ضاغطة عليها جدا في بعض المراحل، وفرضت عليها مواقف ما تزال تدفع ثمنها لظنها أن ذلك السلوك لا يمكن تفهّمه حينها .
وقد بات واضحاً لدى حركات النضال أن الخسائر المتعلقة بمستوى الحضور والشعبيّة والتضامن العاطفي من حواضنها وأنصارها هي خسائر نسبيّة يمكن إصلاح الضرر الناشئ عنها بكلفة أقلّ من إصلاح الضرر الناشئ عن الأخطاء الاستراتيجية القاتلة والحسابات الخاسرة والمتأخرة.
المكان الطبيعي لحركات التحرر سياسياً أن تصطفّ إلى جبهة الرفض والاستقلال والتغيير، ولا يمكنها الوقوف في الوسط لأن ذلك يشبه الموقف العدميّ، بل الموقف القاتل وأنت في غمرة تداعيات عصر الطوفان والحرب الشاملة الهائلة.
إن النقاش الذي يجب أن يكون الآن هو في كيفية الانخراط في سياق التحرير، والاستثمار الأمثل للبيئة السياسية والاستراتيجية والشعبية الجديدة التي أتاحها الطوفان، والتي أعادت الاعتبار الاستراتيجي لهذه القضية، وينبغي الآن السعي لمنافسة الأطر المخالفة في تصعيد الفعل المناصر لهذه القضية المركزية، لاسيما أنها أيضاً أثبتت جدواها في الاستثمار السياسيّ الدولي والإقليميّ والمحلّيّ لاسيما إذا كان الاستثمار صادقاً قويّاً وذا شعبيّة، ويمكن لهذا الاستثمار في السياسة الخارجية على الأقل أن يدفع أي جهة للتقدم بقفزات كبيرة للأمام على أرضية ثابتة.
“}]]