[[{“value”:”
يؤكد الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله – على النقطة التي ينطلق منها التاريخ نحو تشييد الحضارة، ويعتبر أنّ من شروط النهضة أن يعرف الإنسان هذه اللحظة التاريخية فيجعلها هي التحول الأساسي في حياته وحياةِ أمته لتغيير أوضاعه والخروج من عقدة النقص والانطلاق نحو صناعة التاريخ.
وإني لأجزم أن “طوفان الأقصى” لحظةٌ تاريخية حاسمة في تاريخ القضية الفلسطينية، ومصيرِ الأمة الإسلامية، بل سيكون له تأثيرٌ كبير في تغيير العالم.
لقد كانت الأوضاع في الأمة الإسلامية، والقضية الفلسطينية بالذات في أسوأ حالها، يمكن أن نصفها بقولنا “لم يبقَ شيء نخسره” وأي تحول جذري سيكون في مصلحتنا بعد أن فشلت كل محاولات الإصلاح السياسي والاجتماعي – خصوصًا بعد الثورات المضادة – في جعل بلداننا متطورة ومزدهرة يعمّها العدل والحرية وكرامة الإنسان ورفاه العيش والمكانة بين الأمم، وباتت القضية الفلسطينية تراوح مكانها من حيث حصار غزة وتحول المقاومة فيها إلى جيش خاص بها لا يقدر على تحرير شبر آخر من فلسطين، ومن حيث أن توسع الاستيطان كان قد أنهى أي فرصة لإقامة حل الدولتين المزعوم.
وكان التقسيم الزماني في المسجد الأقصى قد نجح، وذلك في انتظار الانتقال إلى مرحلة التقسيم المكاني، ثم تدميره لاحقًا – لا قدر الله – لو استمر الانهيار. كما ظل الفلسطينيون في داخل الخط الأخضر يعيشون تحت نظام الفصل العنصري، وتسارعت وتيرة التطبيع والتخلي الجماعي العربي عن القضية، وكان التخطيط جاريًا لضمّ السعودية إلى اتفاقات التطبيع؛ لتكون هذه الخطوة بمثابة “رصاصة الرحمة” للحق الفلسطيني في زعمهم، والانتصار التاريخي الأعظم للمجرم نتنياهو.
فهل بقي أمام كل هذه الخسائر الخطيرة الجارية من شيء نخاف عليه، ويجعلنا نتهيّب من تبعات تصعيد المقاومة؟
سُنة الله في الظالمين والمظلومين
لو نعدد المكاسب الإستراتيجية التي حققها “طوفان الأقصى” إلى الآن، لتأكد لدينا أنه حالة سننية مباركة جرَت على عين الله تتجاوز إرادة البشر، كتلك التحولات الكونية الاجتماعية التي يمضيها الله – تعالى- حين يُطبِق الظلمُ على الأرض، ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، لكي يعذِّب الظالمين ويرحم المظلومين ويبتليهم.
أما الظالمون فقد عذبهم الله – تعالى – بـ”طوفان الأقصى”، قبل أن تنتهي المعركة، عذابًا لم يعرفوه من قبلُ، ومن ذلك:
سقوط الرواية الصهيونية الكاذبة وانتباه شرائح واسعة في العالم، وخصوصًا في العالم الغربي، إلى الحق الفلسطيني وعدالة قضيته.
انقلاب صورة الكيان الإسرائيلي في الرأي العام الدولي من كيان أُهدِي لشعب مظلوم، تعرض للإبادة من قبلُ، ومحاصرٍ من جيرانه العرب اليوم، إلى كيان ظالم ومجرم مُتَابع من محكمة العدل الدولية، والضمير الإنساني بجرائم الإبادة الجماعية، ومنبوذٍ عند كثير من الدول، بعضها حكومات غربية.
انتباه أعدادٍ هائلة من سكان الدول الغربية، خصوصًا الشباب، إلى نفاق حكامهم والخداع الكبير الذي كانوا واقعين فيه، في فهم العالم تحت تأثير وسائل الإعلام المتحكم فيها من اللوبيات الصهيونية والمساندة لها والمتعاونة معها.
سقوطُ أسطورة تفوق الاستخبارات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وإذلال الجيش الصهيوني الذي اعتُقد بأنه لا يقهر، وذلك من خلال عجزه التام عن تحقيق أي هدف من أهدافه المعلنة في عدوانه على غزة، سوى قتل المدنيين الأطفال والنساء.
تعمق انقسام المجتمع الإسرائيلي وتجلي تناقضات طبقته السياسية بشكل مدهش وفق قوله تعالى عن بني إسرائيل : “تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى”، ودخول قادة البيت الأبيض على خط هذه الاختلافات؛ لمحاولة ترجيح كفة التيار العلماني القريب منهم، المؤسس للدولة الصهيونية بعد تعاظم الاختلاف مع نتنياهو وحلفائه في التيار الديني الحكومي.
رجوع الاهتمام بحل الدولتين المزعوم في الساحة الدولية، بعدما كاد يُعدم نهائيًا في العالم كله، ومن العرب أنفسهم، وهو الحل الذي عجز مسار المفاوضات عن تحقيقه عبر سنوات طويلة.
إفساد خطة القادة الأميركيين في تغيير أولويات السياسة الخارجية، بعدما ساد الاعتقاد أن الشعوب العربية في نوم عميق، وأن القضية الفلسطينية قد تم التخلي عنها من قبل الحكام العرب أنفسهم، وأن مصير إسرائيل مضمون في المنطقة من خلال موجة التطبيع الكبيرة قبل “الطوفان”، وعلى هذا الأساس اعتقد الأميركيون أنه يمكن التفرغ للخطر الصيني والروسي والدول الصاعدة الأخرى المتفلتة من القبضة الأميركية، فإذا بهم يجدون أنفسهم يعودون إلى المنطقة مكرهين، تاركين خصومهم الدوليين يرتّبون لمستقبل تنتهي فيه الهيمنة الأميركية.
تسبب “طوفان الأقصى” في إنشاء حالة وعي شعبي كبير في الولايات المتحدة الأميركية ضغَط على الحزب الديمقراطي الحاكم، وأدّى إلى بروز خلافات شديدة في داخله وفي مؤسسات الدولة، كما أدى إلى مزيد من اللااستقرار الذي كان يتجه إليه المجتمع الأميركي، بسبب حالة اللايقين في الحياة السياسية أمام صعود ترامب من جديد، وتراجع شعبية بايدن جراء مواقفه في الحرب على غزة. وسواء فاز ترامب أم بايدن ستعرف الحياة السياسية تطورات كبيرة تزيد في تراجع الولايات المتحدة الأميركية في الساحة الدولية.
صنفان من المظلومين
أمّا المظلومون فقد انقسموا أمام هذه الظاهرة السننية إلى صنفين:
الصنف الأول: هم الذين انسجموا مع التحول السنني لـ”طوفان الأقصى”، وكانوا ممن صنعوه وأيّدوه وساروا فعليًا معه، وعلى رأسهم أبطال المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة الذين أعدوا واستعدوا ووضعوا أنفسهم في المكان المناسب للالتقاء مع سنة الله في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل، فأعطوا الدليل الواضح البين بأنه يمكن قهر الجيش الإسرائيلي وإذلاله وإرباك دولة الكيان بأبسط الوسائل، حين يتم إعداد الإنسان المؤمن الذي لا يخشى الموت، وقد انتصروا في اثنتي عشرة معركة على الأقل إلى الآن، هي:
نجحوا في العملية التاريخية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي دوخت العالم، ولم يستوعب العدو حقيقتها إلى الآن، وباتت نموذجًا في الحروب تدرسها المعاهد العسكرية.
نجحوا في المواجهة البرية، فأعجزوا جيش الاحتلال عن أن يحقق أي هدف، وأوقعوا القتل في جنوده وضباطه والتدمير لآلياته بما لم يرَه طيلة وجوده منذ بداية الاحتلال.
نجحوا في إفساد خطة التهجير؛ بسبب ثبات أهل غزة، رغم المأساة التي تجاوزت كل حدود التحمل البشري.
نجحوا في المحافظة على الأسرى وطريقة التعامل معهم وفق الأخلاق الإسلامية والقوانين الدولية، بما أفسد مخططات التشويه التي دحضها الأسرى الإسرائيليون أنفسهم، بعد إطلاق سراحهم في الهدنة التي تم التوصل إليها.
نجحوا في إدارة المفاوضات وعدم التأثر بالضغوطات الإجرامية الإسرائيلية والأميركية وضغوطات بعض الدول العربية.
نجحوا في المحافظة على وحدة صف الفصائل المشاركة في “الطوفان”، وفي إدارة الجبهة الداخلية في غزة.
نجحوا في إدارة العلاقة وعدم التورط فيما يريده الإسرائيليون من صراع ـ يكون في صالحهم أثناء الحرب ـ مع الجهات الفلسطينية المتربصة والمتعاونة مع الدول العربية والغربية لتصفية المقاومة.
نجحوا في إبطال مخططات الإسرائيليين والأميركيين لما بعد الحرب، ومحاولة تعويض الحكومة في غزة بالعشائر، وبعض العملاء الذين اشتغلت عليهم المخابرات الإسرائيلية ومخابرات السلطة الفلسطينية.
نجحوا في المحافظة على العلاقة مع الأنظمة العربية وحكامها، رغم علمهم بالنيّات السيئة للعديد منهم، ومساهمة بعضهم في محاولات تصفية المقاومة نهائيًا.
نجحوا في الأداء الإعلامي من خلال تدخلات “أبو عبيدة” الذي تحوّل إلى رمز عالمي، وعبر تدخلات مختلف المتحدثين الإعلاميين، وبواسطة المجهودات الكبيرة القائمة على مستوى الوسائط الاجتماعية للتأثير في الرأي العام العالمي.
نجحوا في إدارة التحالفات مع محور المقاومة من الناحية العملياتية وفي المواقف والخطاب.
نجحوا في العمل الدبلوماسي والاستفادة من التناقضات وصراعات المصالح وفي التعامل مع المواقف الدولية والقرارات الإيجابية أو المخففة.
شبهات المرجفين
وعن الشبهات التي يطرحها الضعفاء والمرجفون فإنها كلها مردودة، ومنها أربع شبهات أساسية:
أما الخسائر البشرية، فهل يوجد احتلال في التاريخ لم يقتل بالجملة من يقاومونه، ففي الجزائر مثلا قَتل الاستعمار الفرنسي مليونًا ونصف المليون جزائري في سبع سنوات بمعدل أكثر من مائتي ألف كل سنة، وحين استقلت الجزائر بقيت تلك التضحيات تصنع شرف البلاد وأهلها بين الأمم عقودًا من الزمن، وكل أولئك الشهداء سيكونون شفعاء لأهلهم بحول الله، وسيعوّض اللهُ الجرحى ومن فقدوا ذويهم وأحباءهم وأملاكهم بالأجر الوفير يوم القيامة، وفي الدنيا حين تستقل فلسطين على نحو ما تقومه به وزارة المجاهدين في الجزائر إلى الآن لصالح المجاهدين والمعطوبين والأسر الثورية الذين يسمون: “ذوو الحقوق”.
أما تدمير غزة كلية، فإن دولًا خرجت من الحروب لا يوجد فيها حجر قائم على حجر، فكان ذلك تحديًا لها لبلوغ نهضتها، مثل: ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، ولو أنفق العرب شيئًا زهيدًا من كنوز الأرض التي وهببها الله لهم، مما يبذرونه ويمنحونه للأجانب بسخاء، لبُنيت به بلدان، وليس مدينة غزة فقط، ولتم تعويض كل المتضررين. وإن أحجم الحكام فليتركوا الشعوب المسلمة تتكفل بالأشقاء الفلسطينيين، فهي قادرة على جمع ما يلزم لإعادة إعمار غزة وتعويض كل من تضرر. كما أن بقاء أهل غزة على أرضهم هو مجدهم. وحياة الشرف في الخيام فوق الأنقاض أدعى لاستمرار المقاومة، وأفضل من الحياة في مدن راقية تُبنى كرشوة للفلسطينيين لكي يتنازلوا عن قضيتهم ومقدساتهم، على نحو ما بات يروق لبعض الفلسطينيين الذين انخرطوا في مشاريع الاستسلام.
وأما قولهم إن “طوفان الأقصى” أعطى ذريعة للإسرائيليين لاحتلال غزة من جديد، فإن المعركة لم تنتهِ بعد وغزة كانت في وضع لا فرق بينه وبين الاحتلال سِوى أن دولة الكيان تخففت من التزاماتها تجاه السكان كدولة احتلال وفق القانون الدولي، إذ جعلت العالم والدول العربية هم مَن ينفقون على احتياجات الغزيين بدلها.
وأما قولهم؛ إن “طوفان الأقصى” سيُنهي سلطة حماس على غزة، فإن اليوم الموالي بعد الحرب لم يصل بعد، وحتى ولو حدث هذا فقد يكون في ذلك خيرٌ بأن تتخفف حماس من التزاماتها المعيشية تجاه السكان وتتفرغ كلية للمقاومة ضمن منطق حرب العصابات الشاملة في كل فلسطين، مع الأخذ بعين الاعتبار الدروس من الحرب القائمة من حيث بطولات المقاومة وإنجازاتها وخسائرها وتجاه من ساندها ووقف معها، وتجاه من خذلها، وتجاه من تآمر عليها وغدرَها.
الصنف الثاني من المظلومين
أما الصنف الثاني من المظلومين: فهم الذين وجدتهم هذه الحالة السننية الطوفانية وهم على هامش التاريخ، وبعضهم كره الله انبعاثهم، ومن ذلك:
بيّن طوفان الأقصى حقيقة تخاذل الأنظمة العربية والإسلامية وعمالة بعضها بدون أي قدرة على إخفاء ذلك، وسيزيد هذا التقاعس والخيانة في انهيار شرعية هؤلاء الحكام الذين لم ينجحوا أبدًا في توفير الكرامة لشعوبهم من ناحية الظروف المعيشية، أو على مستوى الحريات والديمقراطية، أو فيما يتعلق بهويتهم وانتمائهم ومقدساتهم.
ولا شك أن الانحصار الشعبي لهذه الأنظمة – الذي زاد مع “طوفان الأقصى” وهشاشة الجبهة الداخلية والاحتقان المتصاعد ضدهم – سيزيد في ضعفهم وعدم قدرتهم على الصمود أمام الأزمات المتوقعة في هذا العالم الذي يتسم بالاضطراب والتقلبات.
كما كشف “طوفان الأقصى” حالة الفراغ المجتمعي وغياب المؤسسات والمنظمات والقيادات القادرة على الضغط على السلطات الحاكمة لصالح القضية الفلسطينية أو لتعبئة الشعوب المحتقنة، خارج سقوف الأنظمة بما يتناسب مع التحول التاريخي الجاري في فلسطين. وسيُحدث ذلك ولا شك هزةً فكرية ووجدانية كبيرة، وستُطرح تساؤلات كبيرة عن جدوى السياسات والمناهج المهادنة والفاشلة التي اتبعتها الحركات الإحيائية من أجل الإصلاح والتغيير حين انتقلت من الدعوة إلى السياسة، وكذلك عن عدم قدرتها ـ في المجمل ـ على المساهمة الفاعلة في مجهودات تحرير فلسطين ونهضة الأمة وأوطانها. وستكون هذه الحالة، بادرة حضارية تفرز أفكارًا وتوجهات وأنماطًا قيادية جديدة لصالح فلسطين وقومة المسلمين.
وفي المحصلة، إن “طوفان الأقصى” رسم مرحلة جديدة صار فيها الكيان الصهيوني مكشوفًا عالميًا، وبات النفاق الأميركي بيّن لا يمكن إخفاؤه، كما ساهم في تغيّر الموازين الدولية نحو التعددية القطبية الدولية التي ستمنح هوامش معتبرة للمسلمين، وزاد انكشاف عجز الأنظمة العربية، وزاد في تعميق لا شرعيتها وفضح بشكل جلي تآمر بعضها على القضية الفلسطينية
رفع “طوفان الأقصى” كذلك من قيمة المقاومة والجهاد والاستشهاد والتضحيات الجسام في الأمة كسبب لمجدها وعزها، وصنع من سكان غزة بمجاهديها وسكانها الأبطال الأشاوس نموذجًا عمليًا لذلك، ونبّه إلى أن وحدة الأمة بكل طوائفها ومذاهبها واتجاهاتها إنما هو حول قضية مركزية أساسية هي القضية الفلسطينية، وفي ظل الجهاد والتضحيات من أجلها، وكشف بشكل بين ما من شأنه أن يُنهي الجدال حول المناهج السياسية داخل حركات الإحياء الإسلامي بأن مهادنة الأنظمة الفاشلة والظالمة سبب في إدامة الاحتلال الصهيوني وديمومة تخلف الأوطان، وأعطى الفرص الكبيرة لظهور أفكار ومناهج ومنظومات قيادية أفضل لتحقيق النهضة والاستئناف الحضاري.
“}]]