[[{“value”:”
أثار انتباهي التقييمات الإسرائيلية لمسار الحرب التي صدرت في الأسابيع الأخيرة، إذ رغم استمرار التوجيهات السياسية والرقابية الأمنية التي تخضع لها وسائل الإعلام هناك، فإن هامش حرية التعبير المتاح أبرز توجهًا غير مألوف نحو انتقاد الحكومة والجيش بدرجات مختلفة من الصراحة والحدة، والتي أقتبس منها ما يلي:
“إسرائيل هزمت بشكل كامل، فأهداف الحرب لن تتحقق، والأسرى لن يعودوا بالعمل العسكري، والأمن لا يزال هدفًا صعب المنال” (هآرتس 13/4).
“عصر انتصارات إسرائيل انتهى، وحماس أرادت أن تُعلمنا بأن هناك عربيًا آخر غير الذي رأيناه في كامب ديفيد أو أوسلو” (أمنون إبراموفيتش، المحلل السياسي البارز في الإعلام العبري 13 / 1).
“الحرب انتهت بهزيمة إستراتيجية لنا، ونحن الآن في ورطة” (حاييم رامون وزير العدل السابق- 11/4).
“إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس، صورة النصر الوحيدة المتاحة لنا هي الإطاحة بنتنياهو، وإجراء انتخابات جديدة، (دان حالوتس رئيس أركان جيش الاحتلال السابق- ديسمبر/كانون الأول 2023).
“نصف سنة بالضبط مرت على نشوب الحرب، وعلى إسرائيل احتساب المسار. فكل الأهداف التي قدّمت لنا تبين أن الطريق أصبح بعيدًا عن التحقيق”، (يوآن ليمور المعلق السياسي في يديعوت أحرونوت).
“حماس لم تَهزم إسرائيل فحسب، بل هزمت الغرب كله، (ألون مزراحي كاتب وإعلامي 5/4).
” لا حياة لنا (للإسرائيليين)، إذا لم نندمج في فضاء الشرق الأوسط، لقد علمنا انهيار كافة أنظمة الدفاع العسكرية والبشرية والتكنولوجية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أنه لا يمكننا الاعتماد فقط على قوتنا وقدراتنا. فالدفاع العسكري وحده لن يؤمّن حياتنا هنا. وإذا كنا لا نريد أن نكون حلقة عابرة في المنطقة مثل المملكة الصليبية، فليس أمامنا إلا أن نجد المعتدلين من العرب ونتحالف معهم، (أمنون ليفي، يديعوت أحرونوت 6/4).
ثمة قراءة أخرى متشائمة عبَّر عنها تحليل نشر على موقع مؤسسة كارنيجي الأميركية في 17 أبريل/نيسان الحالي، لاثنين من الخبراء، هما ناثان براون وفلاديمير بران. ويرى الباحثان أن الهدف النهائي لإسرائيل هو التدمير الكامل لكل مقومات الحياة الفلسطينية في غزة، بحيث لا يكون هناك مجال لأي دولة فلسطينية، حتى حل الدولتين الذي يتحدث عنه كثيرون في الغرب أصبح مثيرًا للاشمئزاز لدى القادة الإسرائيليين.
وهذه الإستراتيجية غير المعلنة تسقط أمام معظم السيناريوهات المطروحة لـ«اليوم التالي»، بما في ذلك نشر قوة سلام دولية في القطاع، أو تشكيل حكومة انتقالية في غزة تشرف عليها الأمم المتحدة، وإذا كان هناك احتمال لوجود سلطة فلسطينية، فإنها ستكون بمثابة وكيل أو مقاول من الباطن، في حين سيظل الأمن كله تحت سيطرة إسرائيل.
أشار التحليل أيضًا إلى أن مناطق كبيرة في غزة جرى تحويلها إلى مناطق عازلة، أما الضفة الغربية، فالمخطط لها أن تتحول إلى بانتوستات في ظل التوسع في مصادرة الأراضي، وهو الدور الذي يقوم به وينفذه على الطبيعة وزير المالية وأحد الرموز الصهيونية اليهودية، بتسلئيل سموتريتش.
ومما نبهَنا إليه الباحثان أن خسائر قطاع غزة من تدميره قدرت بما يعادل 18,50 مليار دولار، حسب تقرير الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة، وأن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية توقع أن القطاع إذا أراد العودة إلى المستوى الاقتصادي الذي كان عليه في 2022، فإن ذلك يحتاج إلى فترة زمنية تقدر بنحو 70 عامًا قادمة.
رغم قتامة هذا الواقع، فإنه يغفل التصدع الخطير الحاصل داخل إسرائيل التي هي في أضعف حالاتها، رغم الدعم الغربي الذي تستقوي به. فوضعها الاقتصادي، كما العسكري، منهك، ومعنوياتها مجللة بالإحباط، كما أن سمعتها الدولية في الحضيض، والالتفاف حولها من جانب أجيال الرأي العام الغربي تراجع كثيرًا بعد افتضاح أمرها، ومحاسبتها أمام محكمة العدل الدوليَّة، أصبحت مطروحة بعد قبول القضية التي أثارتها جنوب أفريقيا باتهام إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية.
وهي القضية التي فتحت الباب أمام مسارات قانونية تتسع، وباتت تشمل حلفاءها، كما فعلت نيكاراغوا عندما اتهمت ألمانيا – بمساعدة إسرائيل في إبادة الفلسطينيين عبر تسليحها مؤخرًا – لدى العدل الدولية.
أيًا ما كان الأمر، فالشاهد أن الصراع سوف يستمر إلى أجل لا يعلمه إلا الله، وإذ كان من الطبيعي أن يعدّ الطرف الآخر عُدّته لاحتمالات المستقبل خلال ما يعلنه أو يضمره، فإن إعادة ترتيب أوراق الطرف الفلسطيني صاحب الحق تصبح ضرورة ملحة.
وإذا جاز لمثلي أن يفكر في الموضوع من هذه الزاوية، فإنني أزعم أن ثمة ثغرتين تلوحان في الأفق، وتأثيرهما السلبي لا ينكر على إضعاف القضية الفلسطينية:
الثغرة الأولى؛ تتمثل في الصف الفلسطيني. أما الثانية؛ فتكمن في الموقف العربي. وأعني بالصف الفلسطيني ثلاثَ فئات: حركة حماس التي تقود المقاومة الراهنة بمشاركة، وتأييد بعض الفصائل الوطنية الأخرى.
الفئة الثانية؛ تتمثل في منظمة التحرير «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني، وتعد حركة فتح عمودها الأساسي رغم تعدد أجنحتها الداخلية التي تضم أيضًا السلطة الفلسطينية. لكن الأخطر هو الاختراق الإسرائيلي لها من خلال ما سُمّي بالتنسيق الأمني بين سلطة رام الله وإسرائيل، وللأسف فإنه يلحق بهذه الدائرة جيش الجواسيس، وشبكات المصالح التي زرعتها ورعتها إسرائيل منذ عدة عقود.
أما الفئة الثالثة؛ فهي تضمُّ جموع الشعب المنتمي إلى الأرض، وغير المنخرط في الفصائل، وهو صاحب الحق في اختيار من يحكم البلاد ويديرها. ولا يعيب ذلك المعسكر خلافاته الفكرية التي هي طبيعية ويمكن احتمالها واحتواؤُها في إطار المشروع الوطني.
الانفصال بين حماس في غزة، وسلطة رام الله يمثل جرحًا عميقًا لا ينبغي أن يستمر، وهو ما تجلى أكثر حين صدر في رام الله تصريحات وبيانات أثناء العدوان الإسرائيلي تكيل الاتهامات لحماس وتجرحها.
ورغم أن فصائل المقاومة أو بعضها تواجدت فيما سُمي غرفة مشتركة في غزة، فإن ذلك كان بمثابة إجراء مسكّن لم يداوِ الجرح. والأمل معقود على نخبة العقلاء والراشدين من الفلسطينيين أو الوسطاء الذين قاموا بالواجب على جبهات أخرى؛ لرأب الصدع والاتفاق على مركزية واستمرار مسيرة المشروع الوطني.
ويسهم في ذلك لا ريب أن تراجع حماس خطابها وبرنامجها أو حتى اسمها إذا لزم الأمر؛ لكي تغدو أكثر انفتاحًا على الآخرين، مع التأكيد على أولوية جهد المقاومة والاصطفاف الوطني، على أي مسعى آخر في برنامجها.
وإذا كان الانقسام الفلسطيني يضعف موقف صاحب القضية، فإن غياب الدور العربي يقصم ظهره ويفجعه. يكفي في ذلك أننا نرى في مشهد الحرب تضامن دول من أفريقيا وأميركا اللاتينية ومظاهرات صاخبة في العديد من عواصم العالم، بينما لا نرى في الصورة أحدًا في العالم العربي، إذا استثنينا مقالات الصحف وأبواق الإذاعات العربية. ويمنعني الخجل من الإشارة إلى مواقف أشقائنا المطبّعين، ورسائل الصامتين الذين يلوّحون عن بُعد بالكلام الساكت والمواقف الغامضة التي أفقدت «القضية الرئيسية» معناها وجدواها.
ليس ذلك جديدًا تمامًا. ذلك أننا لا ننسى أنه في 1948 أوفدت دول عربية وحدات من جيوشها للحرب ضد إسرائيل من باب رفع العتب، لكنها هزمت بعدما تم تحييد الفلسطينيين، ومنذ ذلك الحين توقّف الدعم العسكري العربي لهم.
خطورة الغياب العربي في المرحلة الدقيقة الراهنة لا يضعف القضية الفلسطينية فحسب، لكنه أيضًا يوحي بالغياب العربي من الساحتَين: الإقليمية والدولية. والأفدح من ذلك، أن الغياب أصبح يوظف باعتباره «اعتدالًا» عربيًا، حتى بات يدرج في بعض البيانات الأميركية والإسرائيلية باعتباره سلوكًا حميدًا «للأصدقاء» في العالم العربي. أي أنه إضافة لمصالح العدوّ وليس فقط خصمًا من رصيد الأشقاء.
ومن المفارقات المحزنة أن بعض الأنظمة العربية، تبنّت مواقف سلبية إزاء الحرب الدائرة في غزة، متأثرةً بخلفيّة تحفظات سابقة تجاه حركة حماس، وعلاقاتها التاريخية بالإخوان المسلمين، في حين أن أحزاب الصهيونية الدينية شركاء في الحكومة والكنيست، ولهم كلمتهم في سياسة الكيان الإسرائيلي.
إنّ الانتفاضة الكبرى التي أطلقت “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تستلزم جهدًا ضروريًا وحكمة بالغة في التعامل مع ما يخبّئه القدر في قادم الأيام؛ لكي يعقلوها جيدًا، ثم التوكل بعد ذلك على الله الذي ينصر كل من ينصره.
“}]]