[[{“value”:”
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
كانت الأمّ المرهقة لُبنى تتجول بين خيام النازحين جنوب قطاع غزة، وهي تحمل طفلتها الصغيرة، والحيرة على وجهها والمعاناة اعترت ملامحها المتعبة، باحثةً عن أحد يساعدها في خَبز طحينها.
لبنى دلول (32 عاماً) أمّ حديثة الولادة، تعيش في خيمة مع أطفالها، لا معيل لهم بعد أن اعتقل الاحتلال زوجها محمد دلول (40 عاماً) أثناء نزوحه، فوجدت نفسها وحيدة غارقة بالمسؤولية والمهام الصعبة.
بداية المأساة
تقول لبنى: في 7 أكتوبر 2023، تفاجأت بسماع أصوات انفجارات متتالية، حيث كنت أعد أطفالي ليذهبوا إلى المدرسة، وصرنا نترقب ما هذا الصوت وسبب مصدره، حتى وصلت رسالة على الهاتف بتعليق الدوام الدراسي، وبدأت بمتابعة الأخبار لمعرفة ما حدث.
وتضيف: وفي مساء اليوم نفسه، بدأ القصف من قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق متفرقة من غزة، وبدأ سكان حي الزيتون (حيث تقطن لبنى وعائلتها) بالنزوح إلى المدارس، لأنّ مساكنهم قريبة من الحدود، وفق روايتها للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
وفي 13/10/2023، ألقى الاحتلال مناشير بضرورة التوجه إلى الجنوب، حيث رأت لبنى وأسرتها جيرانهم يغادرون الحي، لكن زوجها فضل البقاء بالمنزل، فهم لا يعرفون أحداً في المناطق الجنوبية، فضلاً عن أنّها حامل، ومعها أطفال صغار، فأين تذهب بهم؟!
تقول السيدة لبنى: في صبيحة يوم 30/10/2023، خرجت أن وابني مالك (9 سنوات)، لجلب بعض الأغراض الضرورية من محيط المنزل، فقصفت طائرات الاحتلال بناية لعائلة ياسين بعدة صواريخ، وامتلأ المكان بالدخان والحجارة انهالت علينا.
وتصف الأمّ حال ابنها قائلة: وصار ابني يصرخ، ولكنّي لم أستطع رؤيته في بداية الأمر، من شدة الدخان والغبار، فاعتقدت أنه خائف، وصرت أطمئنه وأنا أحاول ضمه لصدري، فوجدت وجهه غارقاً بالدم، وعينه اليمنى خارجة من مكانها.
وهنا، أخذت الأم الملهوفة ابنها مسرعةً إلى مستشفى الشفاء، حيث علمت من الأطباء أنّ شظايا دخلت في عينه، وبعد عمل اللازم له من صور أشعة، تمّ تحويله إلى مستشفى العيون، حيث أجريت عملية جراحية له. فقد ابنها الرؤية بالعين اليمنى، ولكنّها تحتاج إلى تنظيف دوريّ، ووضع مرهم مخصص لها خوفاً من الالتهاب، مع ضرورة تغطيتها.
اعتقال الزوج
ونظراً لاستمرار القصف والأحزمة النارية وسقوط بنايات على أصحابها، وشح البضائع وغلائها، قررت الأمّ في 01/11/2023 التوجه إلى مدرسة الفلاح، وهي مركز إيواء مكتظ بالناس، وفيها نقطة طبية. تقول لبنى: كنا نتعاون فيها على تدبير أمورنا واحتياجاتنا الأساسية، خصوصاً في توفير الطعام والماء.
ولكنّ وجودهم في مركز الإيواء لم يشفع لهم، ففي 16/11/2023، وبينما هم داخل المدرسة، بدأ القصف العشوائي على المدرسة من آليات الاحتلال، حيث استشهد العشرات، ما أدى إلى خلق حالة من التوتر والخوف الشديد بين النازحين، وبدأوا بالفرار من المدرسة.
تقول لُبنى: في 17/11/2023، قرّر زوجي وشقيقه أن نخرج من المدرسة وأن نتوجه للجنوب، وكانت الوجهة نحو النصيرات، حيث يوجد بعض الأقارب، صعدنا جميعاً على عربة يجرها الخيل، ووصلت بنا إلى مفترق دوار الكويت، ومن هناك سِرنا على الأقدام.
وتضيف، كانت أعداد كبيرة من الناس متوجهة إلى الجنوب، وكان جنود الاحتلال ينتشرون بالمكان، وعلى أطراف الشارع سواتر رملية، يقف خلفها الجنود، فضلاً عن الدبابات والجيبات.
وتصف لُبنى اقترابهم من الممرّ الآمن بقولها: كان أطفالي مع والدهم الذي كان يحمل الصغيرة مايا، وتجاوز الممرّ الآمن قبلي، ولكني لم أجده عندما تجاوزته، فبحثت بين المارة عن زوجي وأطفالي، ولكن دون جدوى، كما إنّي لم أجد شقيق زوجي.
وهنا، قرّرت لُبنى التوجه إلى منزل عائلة أقاربها معتقدة أنها ستجد عائلتها هناك، فلم تجدهم، فتوجهت إلى مدرسة النصيرات “و” التابعة لوكالة الغوث، وتفاجأت بأنّها مكتظة بالنازحين، لكنها رفضت الخروج من المدرسة، وأوضحت لهم أنها غريبة، ولا تعلم شيئاً عن زوجها وأطفالها، إضافة إلى كونها حامل.
تضيف لبنى: وفي اليوم التالي حضر شقيق زوجي إلى المدرسة ومعه أطفالي، وأخبرني أن الاحتلال اعتقل زوجي أثناء مروره عبر الممر الآمن، وطلبوا منه ترك أطفاله والتوجه للجنود للحديث معه، وفجأة أخذوه وبقي أولادي بالشارع، فشاهدهم شقيق زوجي وهم جالسين على الرصيف يبكون من شدة الخوف.
رحلة المعاناة
تصف لُبنى كيف بدأت الأيام صعبة وثقيلة جداً، فمُعيل الأسرة اعتقل من الاحتلال، وهي في الأشهر الأخيرة من الحمل، ومعها أطفال بحاجة إلى رعاية، فضلاً عن طفلها المصاب الذي يحتاج رعاية خاصة بعد أن فقد عينه، فمكان الإصابة يحتاج تنظيفاً وتعقيماً لحمايته من التلوث الذي قد يؤدي إلى التهابات.
ولأنّ القصف كان شديداً في النصيرات، وفي كل يوم يقصف عدد من المنازل، وتستشهد عائلات بأكملها، فقد قرّرت السيدة في 10/1/2024 الانتقال إلى رفح، فساعدها ابن شقيق زوجها، حيث دبّر لها قطعاً من النايلون والأخشاب، وصنع لها خيمة صغيرة لتقيم فيها مع أطفالها.
وفي وصفها لوضعهم الصعب تقول لُبنى: كنت أعتمد في طعامنا على الكوبونة التي توزع مرة بالشهر، وهي عبارة عن معلبات فول وبازيلاء وحمص وحلاوة، وأكياس الطحين من وكالة الغوث، حيث أعجن وأنتظر طابور الخبز على فرن الطينة أو الحطب الموجود في المخيم.
وتضيف، وكان ابني الكبير معتصم يذهب يومياً إلى التكية ليقف على الطابور، وينتظر الكثير من الوقت ليحضر لأشقائه الطعام المطبوخ، وهو غالباً ما يكون عدساً أو فاصولياء أو بازيلاء، فأنا لا أستطيع في ظل الغلاء شراء الغاز أو حتى الحطب لأطهو لهم.
وهنا، صمتت لبنى فجأة تاركة لدموعها التي أغرقت وجهها النحيف التعبير عما تشعر به من بؤس وألم وقلق وخوف، ثم قالت: لم أتوقع ان كل هذه المعاناة تنتظرني، وخصوصاً بعد اعتقال زوجي، وأنّ حياتي ستنقلب رأس على عقب.
بسمة في قلب المحنة
وعن ولادة ابنتها في هذه الظروف، تقول الأمّ لُبنى: وفي 04/02/2024، بدأت معي أعراض المخاض، ورغم أنني خضت هذه التجربة من قبل، لكن هذه المرة كانت الأصعب، فأنا وحدي في الخيمة، ولا يوجد من يساندني أو يواسيني. كان الألم شديداً ومتواصلاً، وشعرت بضيق في التنفس، وكان جسمي هزيلاً نتيجة لقلة الأكل، فلم أستطع النهوض.
وتضيف، صرخت فجأة بصوت مرتفع، فهرعت إليّ سيّدة من الخيمة المجاورة، وساعدتني على الوقوف، حيث كنت ملقاة على الرمل داخل الخيمة، ولا يوجد فرش أمكث عليه، ولكن عندي بعض البطانيات التي توزعها الوكالة، أفرشها لأطفالي ليناموا عليها.
وهنا، أخرجتها جارتها من الخيمة، وأحضرت كرسيّاً لتجلس عليه، قبل أن توقف سيارة إسعاف كانت مارة بالصدفة، لتنقلها إلى المستشفى الإماراتي في رفح.
وتصف الأمّ الوضع حينها قائلة: جلسنا في صالة الانتظار بالمستشفى المكتظ بعشرات السيدات اللواتي يخضن آلام المخاض دون وجود أدنى رعاية، وبعد ساعة أو أكثر تم توفر سرير لأخوض مرحلة المخاض وحدي دون رعاية أو اهتمام.
وتضيف لُبنى: بكيت كثيراً من الألم ومن البرد.. بكيت لأنني وحيدة.. بكيت على أطفالي الذين تركتهم وحدهم في الخيمة.. وبكيت أكثر لأنه لا يتوفر معي ملابس أو حفاضات لطفلتي القادمة.
وبعد أن تمّت الولادة بمشيئة الله وقدرته، كان على الأمّ أخذ طفلتها “ماريا” ومغادرة المستشفى، فلا مجال للانتظار، فهناك نسوة يتألمن ينتظرن سرير فارغاً.
عادت لُبنى إلى خيمتها لتخوض حياة أكثر صعوبة وتعقيداً، فهي لا تملك النقود لشراء الحليب أو الحفاضات أو الفوط الصحية أو حتى ملابس لطفلتها الجديدة.
تقول: حركتي خارج الخيمة اصبحت صعبة لتدبر أمور أطفالي، فإن خرجت فإنا مجبرة على أخذ طفلتي التي من الممكن أن تمرض نتيجة البرد وتقلبات الجو واستنشاق دخان نتيجة اشعال الحطب.
وما زالت لُبنى تتواصل مع الصليب الأحمر لتعرف مصير زوجها الذي تنتظر خروجه بفارغ الصبر، ليخفف من وطأة الحِمل الملقى على عاتقها.
“}]]