لن يكون اغتيال صالح العاروري الحدث الأخير من نوعه، ولا هو الأول طبعا، فقد سبقته اغتيالات أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي ويحيى عياش وعماد مغنية وعباس الموسوي وعشرات غيرهم، ومن دون أن يعني ذهاب هؤلاء للقاء ربهم، سوى أنهم نالوا شرف وقداسة الشهادة، التي عاشوا حياتهم لأجلها، ومن غير أن يؤدي رحيلهم الجليل إلى أي انتكاسة في سيرة حركات المقاومة الفلسطينية، التي أشعلت حروبها مع كيان الاحتلال الإسرائيلي في العقود الأخيرة، وتحدت دعوى السلام الخانع والتطبيع الذليل كخيار استراتيجي عليل، وقدمت المقاومة والتحرير كخيار استراتيجي أصيل، وعلى قاعدة الدم الذي يهزم السيف، ودخلت المقارعة الكبرى بالحس الاستشهادي كأرقى قيمة إنسانية، صارعت بها أعلى قيمة تكنولوجية يملكها العدو ورعاته الأمريكيون، وثبت في مجرى الصدامات والجولات الحربية على جبهة لبنان وجبهة فلسطين في ما بعد، أن القيمة التكنولوجية المضافة التي يحوزها العدو، ليس بوسعها اكتساب مكافئ للقيمة الاستشهادية، بينما الأخيرة طورت عملها على الدوام، واكتسبت قيما تكنولوجية متحدية لتكنولوجيا العدو الحربية، أعجزت كيان الاحتلال عن كسب أي نصر في أي معركة دارت في لبنان، وفي غزة بالذات، إلى أن صارت أقدار الهزيمة المحققة من نصيب الكيان حصرا، على نحو ما جرى ويجري منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر المزلزل حتى تاريخه.
وحسب قواعد وأصول عمل المقاومة الجديدة، فلن يكون لذهاب الشهيد العاروري وصحبه الكبار في عملية الضاحية الجنوبية ببيروت، لن يكون في اغتيالهم أي معنى لنصر حقيقي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي نفذ عملية الاغتيال بغارة لطائرة مسيرة متقدمة تكنولوجيا، وتصور أن إقصاء العاروري وإخوته، قد يؤثر سلبا على مقاومة حماس وكتائب القسام من جنوب لبنان والضفة الغربية بالذات، فقد تكون حماس خسرت بالاغتيال قادة مجربين، لكن ما لا تفهمه إسرائيل ولا أمريكا ولا الغربيون عموما، أن اغتيالات قادة المقاومة يزيدها لهيبا وليس العكس، وأن تنظيمات المقاومة الجديدة بعقائدها الاستشهادية وطرق هيكلتها المتقنة، تبدي مقدرة خارقة على الإحلال الفوري لقادة بدلاء، وبالكفاءة ذاتها، إن لم تكن أكبر، فكل قائد يرحل له خمسة بدلاء على الأقل، وهو ما ثبت يقينا مع كل عملية اغتيال كبرى.
فلم تنته حماس مع اغتيال مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، ولا انتهت سيرة التطوير التكنولوجي وتصنيع السلاح مع اغتيال المهندس العبقري يحيى عياش، ولن ينتهى طبعا دور حماس في لبنان، أو في الضفة، مع اغتيال الشيخ العاروري، الذي كان ـ كما هو معروف ـ قائدا لحركة حماس في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وكان له الدور الأبرز في إعادة تنظيم حركة حماس في الضفة، وزيادة شعبيتها في اطراد، وتطوير عمل المقاومة، وتزويدها بما تحتاجه من سلاح وخبرات تصنيعه محليا، بعد إبعاد الرجل قسرا، وتغريبته الممتدة، التي انتهت به إلى بيروت، وكان قد جرى أسره وسجنه من قبل كيان الاحتلال مرارا وتكرارا، وكان استشهاده ذروة حضوره الفلسطيني العام، فقد عاش في الضفة والمهاجر لسنوات طويلة، وكان دأبه المتصل الهادئ أهم ما يميز شخصيته، وعرف بين قادة حماس بنزعته الوطنية الجامعة، وسعيه إلى وحدة وطنية فلسطينية، جعلت حركة فتح ـ خصم حماس التقليدي ـ من أول المبادرين إلى نعيه وإدانة جريمة اغتياله، التي كان العاروري نفسه ينتظرها من سنين، وكان اسمه على أول قائمة الاغتيالات المعلنة من كيان الاحتلال رسميا، وربما تكون إسرائيل فرحت بإقصاء العاروري عن الحياة، واتصال قيادته للمقاومة، لكن العدو الجهول لا يفهم، أنه حقق للشهيد أمنيته الغالية المعلنة، فقد قال مرات عديدة إنه يتمنى الشهادة، وشاء الله أن يبلغه مراده، وكان لردود فعل أمه وأخته مغزى لافتا، فلم تبك أمه المسنة المقعدة، بل هنأت نجلها الشهيد بنوال أمنيته، وراحت أخته تهنئ أسرتها والشعب الفلسطيني باستشهاد شقيقها، وتعتبر أن النصر مقبل وصبر ساعة، وهو ما يبرز الفارق الثقافي والأخلاقي المهول بين الفلسطينيين وعدوهم.
الفلسطينيون لا يخافون الموت، ويعتبرون الاستشهاد جائزة ومنحة ربانية هي الأعظم، بينما الإسرائيليون على العكس تماما، وهو ما يجعل عمليات الاغتيالات الإسرائيلية بغير نفع أو أثر لصالح العدو، ويوحى بمآلات المعارك الجارية في الحال والاستقبال، وهو ما صار يدركه حتى بعض الجنرالات الكبار في كيان الاحتلال اليوم، خذ عندك ـ مثلا ـ الجنرال إيهود باراك، وقد عمل رئيسا للوزراء، وقبلها وبعدها رئيس أركان ووزيرا لجيش الاحتلال، ومبكرا كرمز بارز في عمليات اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية، منذ عملية الفردان، التي قادها في بيروت عام 1973، وارتدى فيها باراك زي امرأة للتخفي، وتسلل إلى مخادع قادة فتح الثلاثة يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، وقتلوا جميعا، ومن دون أن يعني رحيلهم نهاية لحركة فتح، ولا جرى شيء من ذلك، حتى بعد تطور عمليات الاغتيال إلى قتل أبو إياد وأبو جهاد وحتى ياسر عرفات نفسه، وكانت تلك الدماء الشهيدة وقودا يلهب خيال أجيال المقاومة الجديدة، حتى بعد أن انتقلت راية المقاومة من فتح إلى حماس، وقفزات المقاومة العفية إلى مرحلتها الراهنة، واكتساب قوة المزاوجة بين الحس الاستشهادي مع ما تيسر من تكنولوجيا السلاح، إضافة إلى عقيدة القتال ووسائله المبدعة، على نحو ما جرى ويجري في حرب طوفان الأقصى، بما دفع الجنرال باراك، وهو في شيخوخته، ومن خلفه تاريخه الطويل في تدبير وتنفيذ عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين الكبار، دفعه إلى مراجعة الحصاد المفجع لجرائم كيان الاحتلال، وإلى فضح أكاذيب إسرائيل حول مستشفى الشفاء، واعترف علنا بأن إسرائيل ـ وليس حماس ـ هي التي حفرت نفقا تحت المستشفى في سبعينيات القرن العشرين، وأبدى جزعه ومخاوفه من تداعي مقدرة إسرائيل على البقاء طويلا، واعترف بأنه لا سبيل أمام إسرائيل لكسب أي نصر، وقال؛ إنها ـ أي إسرائيل ـ خسرت الحرب الجارية كلها ونهائيا منذ السابع من أكتوبر، ما يؤكد أن عمليات اغتيال القادة، لن تمنح إسرائيل فرصة لاصطناع نصر موهوم، بينما كل جيشها وأجهزتها الأمنية في حالة إذلال.
نعم، عمليات اغتيال العاروري، ومن يأتي عليه الدور بعده من قادة حماس وجناحها العسكري كتائب عز الدين القسام، إضافة لمجازر الإبادة الجماعية في غزة، والقصف الهمجي البربري للبشر والحجر بعشرات آلاف الأطنان من الصواريخ والقنابل الذكية والغبية، وزلازل التدمير الكلي وتفجير شلالات الدماء، وقتل وجرح نحو مئة ألف فلسطيني، أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال والرضع، ومحو كل موارد البقاء على قيد الحياة، وهدم المخابز والمطاحن ومحطات المياه ومخازن الدواء والمستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة، كل ذلك لن يغير أبدا رغم مراراته ومآسيه من المغزى التاريخي للحرب الجارية، فلم يعد بوسع إسرائيل أن تحقق نصرا عسكريا، وهي تواجه قتالا متفوقا من كتائب المقاومة الفلسطينية، وتواجه صمودا أسطوريا من الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي لن يحقق للعدو هدفه في تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم المقدسة، رغم آلاف المجازر المتواصلة، ورغم التنكيل والتجويع والتشريد والدمار وتقطيع أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ.
ذهاب العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، لن ينهي الأثر الملهم لسيرة كفاحه، وكل طفل فلسطيني سيكون قائدا، كما قالت شقيقة العاروري، وقد تذهب تحليلات الوقت إلى توقعات في اتجاه أو آخر، من نوع توقع رد مباشر مكافئ من حماس أو من حزب الله، وقد كان العاروري همزة الوصل الموثوق مع قيادة حزب الله، ومع زعيمه حسن نصر الله بالذات، وقد يجري الرد الانتقامي أو يتأخر وقته، وقد تؤثر عملية إسرائيل الجبانة في خلط سير الحوادث الحربية، وقد تزيد من مستويات الاشتباك بالنار على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وكل ذلك مفهوم، لكنه ليس العنصر الحاسم في ما جرى ويجري، فليست القصة في انتقام موقوت، ولا في الثأر القبلي، بل الأساس في الحرب الجارية على الأرض الفلسطينية، وفي غزة بالذات، فلم تنفذ حركة حماس انتقاما وقتيا لاغتيال زعيمها المؤسس الشيخ أحمد ياسين، وفضلت الرد في الميدان، بتعزيز قوتها وصناعة أسلحتها، وخوض حرب تحرير حقيقية، لا تشغل بالها كثيرا بدوائر انتقام لأشخاص مهما علا قدرهم، فحتى لو جرى اغتيال يحيى السنوار شخصيا، فلن يعني ذلك أبدا نهاية المقاومة، ولا نهاية سيرة عبقريتها وإبداعها القتالي المذهل.