عبثاً يستنجد الفلسطينيون في قطاع غزّة الذين يتعرّضون لحرب إبادة إسرائيلية بـ”الدول العربية” و”الحكّام العرب” و”العرب”، بل وحتى بـ”الدول الإسلامية” و”المسلمين”. تعلم وهم يطلقون هذه الصرخات تحت وطأة الألم وفاجعة الحال أنهم ما يطلقونها إلا استنكاراً لا استفساراً، فهم مثلنا يعرفون أن صرخاتهم ستذهب أدراج الرياح، وأنها ستقع على آذانٍ صمّاء وإرادة ضائعة، إذ بيننا من هم متواطئون، شركاء في الجريمة، وعاجزون غير قادرين على كسر قيود جلاديهم ولا التحرّر من الرعب الذي قذفوه في قلوبهم. إنها الحقيقة المرَّةِ التي نقف جميعنا أمامها عراة. إننا نخذلهم، حتى كشعوب تتألم من أجلهم وتذرف الدمع دماً عليهم، ونحن نتابع بالثانية والدقيقة والساعة مأساتهم تعرضها أمامنا شاشاتُ التلفزة. ومع ذلك، لا يقوى حزننا وغضبنا على أن يرغما أنظمتنا أن تخاف ردّتنا وفعلنا، ومن ثمَّ تقوم بشيء جوهري وذي معنى لوقف الإبادة في حقّهم، إن لم يكن تضامناً صادقاً معهم، فعلى الأقل خشية على كراسيهم منَّا.
ما سبق ليس من قبيل جلد الذات، ولكن من باب مصارحتها والخجل منها. كيف لنّا أن نفسّر عجز عشرات الدول العربية والإسلامية عن إيصال شربة ماء ولقمة طعام وجرعة دواء وبرميل نفط إلى قطاع غزّة الذي ما زال مرتبطاً برّياً بدولة عربية، هي الأكبر والأقوى، وإنْ نظرياً؟ معبر رفح ليس معبراً مصرياً – فلسطينياً فحسب، بل هو كذلك معبر عربي – إسلامي مع فلسطين، ومن ثمَّ، فإن دعوة 57 دولة عربية وإسلامية في القمّة العربية الإسلامية المنعقدة في الرياض، الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، إلى “كسر الحصار” على قطاع غزّة تغدو كوميديا سوداء هزلية. لماذا ندعو؟ ومن ترانا نطالب؟ وممن ننتظر الإذن؟ من إسرائيل التي ترتكب الإبادة؟ أم من الولايات المتحدة شريكتها في الجريمة؟ أبعد ذلك عار والدول العربية والإسلامية قاطبة عاجزة حتى عن تأمين خروج الجرحى الفلسطينيين وعلاجهم في مستشفياتها؟ وكيف لنا أن نفسّر موقف النظام المصري بغير التواطؤ، وهو يُحْكِمُ إغلاق بوابة القطاع بذريعة التزاماته الدولية، وكأن القانون الدولي يعطيه الحقّ أن يترك شعباً يباد على حدود بلاده، دع عنك أنهم امتداد عربيٌّ وإسلاميٌ له.
لكن العار لا يقف عند هذا الحدّ. في دول عربية كثيرة يُجَرَّمُ حتى التظاهر السلمي من أجل قطاع غزة. وَتُحْظَرُ الكوفية الفلسطينية على أنها رمز سياسي “تحريضي”. وَيُفْصَلُ طلبة من جامعاتهم إن هم نظموا أنشطة تدين العدوان الإسرائيلي. وَيُعْتَقَلُ من يجرؤ على أيٍّ من ذلك أو حتى على انتقاد القيود التي تفرضها بعض الأنظمة العربية على إبداء التعاطف مع الفلسطينيين. حتى هذا اليوم، لم تقطع دولة عربية أو إسلامية واحدة تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل هذه العلاقات، في حين تجاهل معظمها استدعاء سفرائهم وممثليهم من تل أبيب وطرد السفراء والممثلين الإسرائيليين في عواصمهم.
نتغنّى، نحن العرب، بدول في أميركا اللاتينية، قطعت علاقاتها مع إسرائيل، كبوليفيا، وأخرى طردت السفراء الإسرائيليين في بلادها، ككولومبيا وتشيلي، وأخرى في أفريقيا علقت علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال وأغلقت سفارتها، كجنوب أفريقيا، في حين تحافظ دول عربية على علاقتها مع دولة الاحتلال، اللهم إلا موقف خجول في الأردن باستدعاء سفيرها والطلب إلى السفير الإسرائيلي، إما بعدم العودة أو المغادرة، لكن من دون قطع العلاقات الدبلوماسية، أو التهديد بذلك. وإذا ما صحّت تقارير إسرائيلية عن تلقي دولة الاحتلال شحنات تجارية محمّلة بالمواد الغذائية الطازجة عبر جسر برّي شكّلته الإمارات، انطلاقاً من موانئ دبي، ومروراً بالسعودية والأردن، لتفادي الحصار البحري الذي يفرضه الحوثيون على إسرائيل في البحر الأحمر، فتلك طامّة ليس بعدها فاضحة. وتقتضي الموضوعية منا هنا التنويه بأن الأردن أنكر ذلك جملة وتفصيلاً، وهو الأمر الذي نتمنّى صحته.
هذا كله في كفّة، وخطاب بعض رجال الدين الرسميين “والنخب المزيّفة” في كفّة أخرى، الذين يبثون سُمَّ تثبيط الجماهير عن مناصرة غزّة، تارة بذريعة الحفاظ على “استقرار” بلدانهم و”عدم مخالفة وليِّ الأمر”، وتارة أخرى بذريعة أن “حماس” قادت الفلسطينيين إلى مغامرة غير محسوبة المآلات، وكأن هذا، إن صحَّ، يعطي إسرائيل مبرّر ارتكاب الجرائم المروّعة بحقهم؟ وكأن هذا يسوّغ لنا، العرب والمسلمين، أن نصمت ونتعامى عمَّا يجري لإخوةٍ لنا في الدم والدين والقومية والإنسانية؟ وفي حين يسمح لهؤلاء ببثّ سمومهم يعتقل عسس السلطان الجائر، ويستهدف بعض رجال الدين المخلصين والنخب الصادقة المنتمية للذات، من الأوفياء لدينهم وضمائرهم وإنسانيتهم عبر الوقوف مع إخوة لهم مظلومين. لكن، ما يعمّق جرح الفضيحة أكثر أن يستغلّ رسميون فلسطينيون محسوبون على السلطة الفلسطينية في رام الله جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة بحقّ أبناء شعبهم لتصفية حسابات سياسية رخيصة مع “حماس”، وتوعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور. دع عنك هنا اعتقال أجهزة أمن السلطة في الضفة الغربية بعض من نزلوا إلى الشوارع نصرة لغزّة وأهلها.
ذلك حال الأنظمة الرسمية، وكذلك حال طبقتيْ الإكليروس المنحرفة والنخب المنبتّة من الذات، لكن ماذا عنَّا، نحن الشعوب التي تنفطر قلوبها على ما يجري لإخواننا في قطاع غزّة؟ وماذا عن القوى السياسية والشعبية والفكرية الحيّة في صفوفنا؟ لنكن صريحين، لقد تمَّ تجويفنا وتنميطنا قرونا وعقودا طويلة، بحيث فقدنا كثيراً من الفاعلية والتأثير. إن كثيراً من أنظمتنا لا تخشى ثورتنا، ولا حتى أميركا وإسرائيل. هم يعلمون أن الغضب يَسْتَعِرُ في قلوبنا وبين جماهيرنا، لكن رهانهم أن ذلك قابل للتنفيس الآن، والتبديد في مرحلة تالية. تُصاب بالعجب العجاب وأنت ترقب ذلك الاحتقان على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتابع عبارات التنديد بعدم خروج الناس إلى الشوارع والزحف نحو الحدود، في حين أن من يطلق صيحات الاستنكار تلك لا يُبادر هو نفسه إلى الخروج إلى الشارع والزحف نحو الحدود! كلنا مدانون هنا. نعم، يمكننا أن نلوم أنظمتنا على القمع والكبت الذي تمارسه بحقنا، لكن لا أحد سوانا ملامٌ على قبولنا بهذا الواقع الآسن، بل وتثبيت أركانه.
تقول إحدى الروايات إن فتح الخليفة العبّاسي، المعتصم، عمّورية، وهي مكان في تركيا اليوم، عام 838 ميلادي، كان بعد أن وصل إليه خبر من رجلٍ قادم منها عن امرأة عربية أخذها البيزنطيون سَبِيَّةً، وهي تنادي “وامعتصماه وامعتصماه”. ومع أن الأمر فيه تفاصيل أخرى أكبر، وله سياق أوسع وأعمق، إلا أن هذه القصّة أصبحت من اللبنات المؤّسسة للكرامة العربية والإسلامية التي ما زال العقل العربي والمسلم ينتجها حتى اليوم. لم يكن المعتصم حاكماً عادلاً في المجمل، لكن التاريخ خلّد له هذا الموقف، كما يُروى. وفي تلك الموقعة العسكرية الكبيرة نظّم الشاعر الفذُّ، أبو تمام، رائعته، ومطلعها:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ/ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِف/ في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
ويقول فيها: تَدبيرُ مُعتَصِمٍ بِاللَهِ مُنتَقِمٍ/ لِلَّهِ مُرتَقِبٍ في اللَهِ مُرتَغِبِ
وَمُطعَمِ النَصرِ لَم تَكهَم أَسِنَّتُهُ يَوماً وَلا حُجِبَت عَن رَوحِ مُحتَجِبِ
لَم يَغزُ قَوماً وَلَم يَنهَض إِلى بَلَدٍ/ إِلّا تَقَدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرَعَبِ
وأنهاها بقوله: أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ
قارن موقف الفخار ذاك بموقف الذلِّ الذي يعيشه العرب اليوم، والذي صوره الشاعر السوري، عمر أبو ريشة، مفارقاً شعر أبي تمام، حيث يقول:
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي ….. مطرق خجلا من أمسك المنصرم
ويمايز بين معتصم الأمس وقادة اليوم من العرب:
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم ….. لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
من أسفٍ، رغم الومضات المضيئة في جسد هذه الأمة، كالتي نراها في المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزّة، إلا أن العجز العربي، وتواطؤ بعضه، صادم ومخز. والخوف كل الخوف أن تتحوّل غزّة إلى أندلس أخرى بسب الخذلان وغياب العمق والظهير العربي والإسلامي، ذلك أن التاريخ القريب ينبينا أننا حافظنا على بعض جينات الخذلان من بعض التاريخ البعيد، وما العراق وسورية إلا نموذجان على ذلك، وطبعاً فلسطين التي تسبقهم بعقود عديدة. يبقى الأمل أن يبرُز في هذه الأمة معتصم آخر، أو أن تفرض مقاومة غزّة نفسها معتصم اليوم، علَّ أوجه العرب تَجِلُّ من جديد.