إلى من جعل الكفن طائرةً من ورق وأتعب خلفَه طائرة الحديد. إلى الخالد في القصيدة.. الراقد بين صفحتين في القاموس، يحلم بالمعاني ودندنة الأغاني ويغفو على جنبيه المجاز. إلى من شقّ أطول نفقٍ بغزة؛ أوله الشجاعية وآخره وادٍ للجنّ في عبقر. إلى من كَتب حتى كان ما كَتب، وحلّ في اللغة العجيبة حتى حلّت فيه للأبد. إلى من طوى بصدره كلَّ جميلٍ حتى صارَه كلُّ جميل، وصعد للجميل الأعلى الذي دلّ على جماله بأجمل عباده. وهذا ما يكسر القلب.
في إحدى دروسه، يحكي رفعت عما يجمع الأدب بالحياة؛ كيف يصنع الواحد منهما الآخر. كيف يملك النصُّ سلطانا على الوجود، وكيف تعود اللغة لتصنعنا ونحن الذين اعتقدنا أنّا صنعناها. كان سيداً من سادات اللغة. كان يعرفها بحقّ؛ يعرف حساسيتها، وكيمياءها، ويعرف السرَّ الذي يقدح فيها النار. وبدلا من أن يرفل بسحرها لوحده، كرّس عمرَه لينشر سرها ويملأ غزةَ بالسَّحَرة. كم طنّا من الإسمنت يرزح الآن فوق سرك الرحب وجسمك النحيل يا رفعت. هذا ما يكسر القلب.
ما أكثر العاملين في التعليم، وما أندر المعلِّم بينهم. المعلم الذي لا يكفّ عن التحريض، ويُلهم سامعَه قصداً ودون قصد، ويبدو التعليم عنده فعلا من أفاعيل الروح لا صنعةً للمعاش والتكسب. المعلم الذي هو ذاتُه درسٌ بذاته، ويرى طلابُه في سيرته تمامَ درسه المحكيّ. ذاك الذي يقف بين أربعة جدران ومقاعدَ من خشب ليحمل الجالسين أمامه لآخِر الدنيا ولا يعود بهم.. لأنه زرع بخيالهم شيئا لا يزول. ذاك الذي يجعل مِن درسِه مطلبا لا مَغرما، ويَبلغ من عقول سامعيه ما لا يبلغ مبضعٌ ولا حتى الرصاص. المعلم الذي يمسح عن “الأكاديميا” عارَ متسلقيها ومنتفعيها وأشباه المعلمين الذين يملؤونها. وحتى نختصر كل هذا وأكثر: المعلم الذي كانَه رفعت، ويصعب جداً على سواه أن يكون. وهذا ما يكسر القلب.
ملاذاتٌ كثيرة كان بوسع رفعت أن يمضي لها، فموهبته كانت باب خلاصٍ لو أراد. لكنه واحد من أولئك الذين تسكنهم فكرة كبيرة؛ فكرةٌ فيها من الكتلة ما يدير الدنيا حولها ويزنّرها بالأفلاك. هذه شامةُ أرفعِ الخَلق، وكم تشهد الحياة -بكل مفترقٍ لها- على ندرتهم: أولئك المسكونون بفكرة تَحكم في النهاية حياتهم، ومسارهم، ومصيرهم. كم منا يعيش وفي رأسه فكرة تَصغر نفسُه أمامها وتقوده لآخر المدى. لأجل هذا، ولغيره، سيبقى رفعت حرَجَنا الأبدي من أنفسنا؛ هذا الرجل الذي عسكرَ السبّورة وجعل من الإنكليزية مسألة عربية، وساحةً للنزال. هناك من يختصون في السياسة والهندسة والشريعة، ثم يفشلون –حتى مع علوم كهذه- أن يَهَبوا معرفتهم لقضية تتجاوزهم. وربما لا يكون الأمر مسألة خيارات وقناعات، بل مسألة معادن: هؤلاء ليسوا من معدن رفعت، ورؤوسهم لم تسكنها فكرةٌ كفكرته. ولهذا، وبغُصّة في الحلق كما في الصدر، ينبغي للمرء أن يقولها: رفعت كان الأجدر بيننا أن يظل حياً لأن ما لديه سيبقى دوما أكثر مما لدينا بكثير.
لا يحتاج المرء أن يخسر وطنا وآلاف الشهداء حتى يَنذر نفسه لقتال عدوٍّ كهذا. يكفي أن تخسر ابتسامةً كابتسامة رفعت وروحا وقّادةً كروحه. لا جبرَ لكسر القلب في كل هذا إلا بقراءة ما كتبه رفعت وخطّه رفعت وتركه لنا رفعت. لا أحد سواك يَجبر كسرنا فيك يا أبا عمر. وهذا تحديداً، ما يكسر القلب.