في الثامن من يونيو/ حزيران 1967، وخلال العدوان الإسرائيلي على كل من مصر وسورية والأردن، تعرّضت سفينة التجسّس الأميركية العسكرية “يو. أس. أس. ليبرتي” لهجوم في المياه الدولية قبالة شبه جزيرة سيناء المصرية من عدة مقاتلات نفاثة وثلاثة زوارق حربية. كانت النتيجة مقتل 34 وجرح 171 من طاقم السفينة التي لحقت بها أضرار جسيمة. لم يطل المقام حتى اتضح أن إسرائيل هي التي شنّت الهجوم، والتي زعمت أنها أخطأت في تحديد هويتها، متوهّمة أنها سفينة حربية مصرية. ومع أن التحقيقات الأميركية القائمة على اعتراض الاتصالات الإسرائيلية يوم الهجوم على “ليبرتي”، أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، حسب الوثائق الحكومية الأميركية التي رفعت عنها السرّية قبل سنوات، أن جهة ما، على الأقل، في الحكومة الإسرائيلية، كانت تعلم بحقيقة هوية السفينة، إلا أن إدارة الرئيس ليندون جونسون اختارت طيَّ الملف، على أساس أن الهجوم “خطأ مأساوي وقع في ظروف غامضة … وغير مفهومة”.
تلك الواقعة غيض من فيض في سيرورة التواطؤ والضعف الأميركي المتجدّد أمام الدولة العبرية، حتى ولو كان ثمن ذلك أرواح جنود أميركيين، وليس فقط مواطنين أميركيين، كما في حالات راشيل كوري، وعمر أسعد، وشيرين أبو عاقلة. ليس هذا فحسب، بل إن اللوبي الصهيوني حينها، كما تؤكّد الوثائق نفسها، كان يمارس ابتزازاً لجونسون، إلى درجة تهديده في أعقاب تصريح للناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، في 5 يونيو/ حزيران 1967، بأن موقف الولايات المتحدة “محايد بالقول والفعل” في حرب 1967، فما كان من هذا اللوبي إلا أن هدّد بأن تتحوّل مظاهرات اليهود المزمعة حينها، في الثامن من الشهر نفسه، أمام البيت الأبيض، بهدف دعم إسرائيل، إلى مظاهرة ضد جونسون. المفارقة أن جونسون وأركان إدارته سارعوا إلى استرضاء اللوبي الصهيوني واليهود الأميركيين المؤيدين لإسرائيل في اليوم الذي كانت الولايات المتحدة تعلن فيه الحداد على قتلاها وجرحاها من الجنود الأميركيين الذين فتكت بهم إسرائيل عامدة على متن سفينة ليبرتي.
مثال آخر على التقهقر الأميركي المهين أمام إسرائيل يعود إلى شهر يوليو/ تموز 2009. حينها لم يكن قد مضى على تسلم باراك أوباما الرئاسة إلا سبعة أشهر، وكان واضحاً توتّر العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على خلفية مقاربتيهما المختلفتين لمسار التسوية مع الجانب الفلسطيني، التي كان يؤيدها أوباما ويعارضها نتنياهو. وفي مسعى لتجنّب أي خلافات بين واشنطن وتل أبيب، طلب زعماء منظمات يهودية صهيونية أميركية اجتماعاً مع أوباما، وهو ما تم في البيت الأبيض. خلال اللقاء، خاطب أحد الحضور أوباما: “إذا كنتَ تُريد من إسرائيل أن تأخذ قرارات صعبة، فمن حقّ قادتها أن يعرفوا أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبهم”. كان ردُّ أوباما: “انظروا إلى السنوات الثماني الماضية .. خلال تلك السنوات الثماني لم تكن هناك مسافة بيننا وبين إسرائيل، ماذا جنينا من ذلك؟ عندما لا يكون هناك فارق بيننا (واشنطن وتل أبيب)، لا تفعل إسرائيل شيئاً (يقصد على صعيد مسار التسوية)، وهذا يؤدّي إلى تآكل مصداقيتنا لدى الدول العربية”. ما أن تسرب تصريح أوباما هذا حتى ثارت عاصفة في واشنطن ضدّه، وخرج أركان إدارته الواحد تلو الآخر “يوضحون” ما عناه الرئيس، ويؤكّدون أنه لا توجد مسافة في الموقف بين البلدين. بقية القصة معروفة، إذ لم يترك نتنياهو طريقة لإهانة أوباما إلا وسلكها، رغم أن أوباما هو الذي رفع حجم المساعدات العسكرية السنوية الأميركية لإسرائيل من 3.1 مليارات دولار إلى 3.8 مليارات دولار، غير أن ذلك لم يشفع له.
معلوم أن إسرائيل منذ قيامها دولة ركنت إلى الدعم الأميركي بدرجة أولى. وهي ما كان لها أن تستمر لولا وجود الظهير الأميركي. وهي عاجزة عن البقاء من دون الترياق الأميركي. ويكفي أن ندلّل هنا كيف أن الإسناد الأميركي المطلق وغير المحدود هو الذي أعاد لإسرائيل توازنها بعد عملية طوفان الأقصى المفاجئة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول. لولا إرسال الولايات المتحدة تعزيزاتٍ عسكريةً إلى المنطقة لمنع توسع الصراع إقليمياً، لكانت إسرائيل تواجه اليوم تحدّيات من نوع آخر أكبر وأخطر، إن لم تكن وجودية. ولولا الجسران الجوي والبحري العسكريان اللذان دشنتهما واشنطن لكانت ذخائر إسرائيل القاتلة التي تُرتكب بها الفظائع في قطاع غزّة قد نفدت. ولولا الحصانة الأميركية في مجلس الأمن لوجدت إسرائيل نفسها أمام محاكم جرائم الحرب الدولية. لكن واشنطن المتواطئة لا تسمح بأيّ من ذلك، مع أن تل أبيب لا تفوّت فرصة لإهانتها وإهانة رئيسها، وهو ديدنها منذ 75 عاماً. إنها العلاقة المختلّة منذ عقود، والتي سمحت للوكيل المحتاج أن يتنمّر على موكله وولي نعمته.
اليوم، عبثاً تحاول إدارة جو بايدن إقناع إسرائيل بأن تقلّل الأعداد المهولة لضحايا عدوانها بين المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزّة عبر لجم قصفها العشوائي. تحثها على تجنّب إحداث دمار هائل في جنوب القطاع، على غرار ما فعلته في شماله. تناشدها أن تسمح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزّة. وتتذلل إليها للقبول بـ”هدن إنسانية مؤقتة”. تسوّغ الإدارة الأميركية مطالبها تلك بأنها لتعزيز قدرتها للدفاع عن إسرائيل أمام المجتمع الدولي الذي بدأ صبره ينفد أمام وحشيتها الفظيعة، ولم يعد يخف تذمّره من مواقف واشنطن. ومع ذلك، تستمرّ تل أبيب في صمِّ آذانها. في الحقيقة، من حقّ إسرائيل أن لا تبالي بما تريده الولايات المتحدة منها، ذلك أنها تعلم أنه ليس من خيار أمامها إلا الوقوف معها. مثلاً، في الوقت الذي تضع واشنطن هذه المطالب أمام الحكومة الإسرائيلية، وتصعّد، من حين إلى حين، حدّة النبرة معها، وتلمّح إلى “خطوط حمر” لا ينبغي أن تتجاوزها في عدوانها، نجدها مستمرّة في تقديم الدعم العسكري والديبلوماسي غير المحدود. ومن ثمَّ، كيف يعقل أن تطالب إدارة بايدن حكومة نتنياهو بتقليل الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، وتجنّب تدمير جنوب القطاع، في الوقت الذي تسعى فيه إلى أن تمنحها 14 مليار دولار، أغلبها مساعدات عسكرية، دع عنك ما تقدّمه لها من أخطر أنواع الأسلحة والقذائف والصواريخ المدمّرة والقنابل الكبيرة كي تستمر في عدوانها؟
تفسير ذلك بسيط وله ثلاثة أوجه. الأول، أن أميركا شريكة في جرائم إسرائيل منذ نشأتها، وليست متواطئة فيها فحسب. الثاني، أن المناكفات السياسية الداخلية الأميركية والابتزاز الذي يمارسه الحزبان الديمقراطي والجمهوري بحقّ بعضهما بعضا، فضلاً عن اللوبي الصهيوني، كثيراً ما تمكّن إسرائيل من التمرّد على أميركا، وحتى المسّ بمصالحها الكبرى. الثالث، ثمَّة من الساسة الأميركيين من يملكون شغفاً شخصياً حقيقياً بإسرائيل، ومنهم بايدن نفسه. ما سبق لا يعني أن الولايات المتحدة ليست قادرة على ضبط إسرائيل وكبح جماح عنفوانها، إن أرادت، لكن ذلك يتطلب توافق مؤسّسات الدولة على مصلحة حيوية أميركية، كما يتطلب إرادة سياسية صلبة من الإدارة ورئيسها. ولكن حتى يتحقق ذلك، تكون إسرائيل قد عاثت في الأرض فساداً.