غزّة… فلسطين: بين قيامتين

يستعصي الكلام في إحدى حالتين ضدّين: حين يكون الموضوع ملتبسا شائكا معقّدا، وحين يكون واضحا وضوح الشمس في وقت الظهيرة. فالأولى كحال حاطب الليل الداجي الذي يضلّ فيه البصر، والثانية كحال الناظر في ضوْءٍ ساطعٍ يعشي البصر. وفي الأولى تبحث عن الكلمات التي لا تُخالطها الشبهات والالتباسات، وفي الثانية تخشى أن تكون الكلمات نافلة و”كليشيهات” في حضرة الحقائق الماثلة للعيان. فالبيّن مستغن عن التبيان، والنهار لا يحتاج إلى دليل، والماثل لا يحتاج إلى تمثيل، ولا يجحدُه إلا من عمِيت بصيرتُه لا بصرُه، أو هو يتعالى عن الحقّ لأنه عدوّه، ثم لا يكتفي بذلك حتى يعمل على تعمية الأبصار وتضليل العقول. فهل يحتاج نهر الدم الفلسطيني المتدفّق منذ نحو مائة سنة، وهذه المجازر غير المسبوقة، وتجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه الإنسانية المشروعة، هل يحتاج هذا كله إلى تًرجمان لكي يفهمه عالم الرجل الأوروبي الأبيض، وهو الذي ترجمنا منه كل تلك المصطلحات الحقوقية الكونية، تنديدا بالظلامات الإنسانية الكبرى، وسعيا إلى خلق عالم أكثر عدالة وإنسانية: التطهير العرقي (Ethnic Cleansing). الإبادة الجماعية (Genocide). الفصل العنصري (Apartheid). المحرقة (Holocaust). الحل النهائي (Final Solution). حق تقرير المصير (Right of Self-determination).

وحتى مصطلحات الاستقلال وحكم الذات والحرّيات المدنية والديمقراطية وغيرها، ذات أصول في اللغات الأوروبية، ونحن أحقّ الناس في تبنّي ذلك الخطاب الحقوقي الكوني، واستدخاله في معجمنا السياسي، إذ المغلوب المظلوم أحقّ به وأهله. ولكن فقه الحقوق شيء، وإنزاله على الواقع شيء آخر. هنا ينجم النفاق وازدواجية المعايير، انطلاقا من المصالح العمياء، وغطرسة القوة وخطابات المركزية الأوروبية الاستعمارية التي اختلقت صورة الأطراف الشرقية الأقلّ عقلانية، ومن ثم الأقلّ إنسانية، والأجدر بالخضوع والتبعية. واستبطن هذا الخطاب بعدا داروينيا يحيل إلى أحكام الضرورات الطبيعية وقوانينها الموضوعية الخارجية الكونية ليفرّ من الأحكام الأخلاقية. فلا حيلة للأقوى في تسيّده وتفوّقه، كما لا حيلة للأضعف في خضوعه. فكذلك طبائع التاريخ وسنن الحياة القسرية، بل هي دافع التطوّر فيه. ولا بأس، يمكن للقويّ المتغلّب أن يملك ترف التعاطف مع الأدنى المغلوب، بعد أن يتم سحقه إلى الأبد، ولا يبقى منه إلا أشباح الماضي ورواية الآباء وآثار من الفولكلور الشعبي التي تصلُح للفرجة أو العرض في المتاحف.

الاستعارة من الداروينية الطبيعية إلى الفضاء الاجتماعي السياسي لتغذية فكرة التفوّق العرقي الأوروبي وتسويغ هيمنته الاستعمارية تنطوي على مفارقةٍ، من جملة مفارقات في تطور الفكر الحقوقي الغربي بين الذات والآخر، أو بين المركز والأطراف. فقد أسّس مفكّرو الأنوار فكرة المساواة على الطبيعة الواحدة التي يولد بها الإنسان بمطلقه، قبل أن تتدخّل المعطيات التاريخية والاجتماعية الموروثة في التمييز والتقسيم والتراتب المادي والاستغلال والاستعباد. حتى إذا تطوّرت الرأسمالية الاستعمارية جرى استدعاء الطبيعة من جديد ببعدها الدارويني هذه المرّة في خطاب المركزية الأوروبية والتفوّق العرقي وإخضاع الأطراف

طبيعتان، إذن، إحداهما للمركز المتغلب والثانية للأطراف المغلوبة.
أما من وجد بعض الحرج الأخلاقي في خطاب التفوّق العرقي الطبيعي، فلربما أحال إلى الشروط الحضارية والتاريخية التي تفوّق بها الغرب في مسار التطور الكوني الواحد. ولكن تطور الشروط المادية التاريخية في المركز دون غيره يحتاج إلى تفسير. وإذ يفضي تفسير التاريخ بالتاريخ إلى دائرة مفرغة، فلا معدى من الارتداد إلى فكرة التفوّق العرقي ولو على نحو مضمر: التفوّق العرقي والتطور الحضاري وجهان لعملة واحدة، وكلاهما تعبيرٌ عن الفكر التطوري المستعار من الداروينية: فإذا انسدّت المخارج الأخلاقية لم يجد بعضهم إلا أن يختلق للهيمنة الغربية الاستعمارية وظيفة إنسانية أخلاقية. وهي تحضير الشعوب المتخلفة المغلوبة. فذلك هو عبء الرجل الأوروبي الأبيض. والعبء يعني مسؤولية أخلاقية يتكلّف لها صاحبها! ولم يسلم من هذا المعنى حتى أشدّ أعداء الرأسمالية الاستعمارية: ماركس وإنجلز، إذ سوّغا استعمار المجتمعات الشرقية الراكدة خارج مسار التطوّر الكوني بأنه السبيل إلى وصل إليها بشروط التطوّر في المركز الغربي، وإن كان الثمن باهظا مرحليا، فالجائزة الآجلة أكبر وأعظم. المركزية الأوروبية من جديد، وإن تنوّعت النماذج الفكرية والإيديولوجية المتصارعة، وظهرت بوجوهٍ مختلفة، تراوح بين القبح العنصري الفاضح والتجمّل الناعم، إلا من التيارات المتأخرة التي استطاعت التجرّد من سطوة الخطاب السائد، لتعمل على تفكيكه، وتمدّ ضحايا الاستعمار بأدواتٍ فكرية أخرى، لكشف آليات السيطرة الممتدّة حتى الآن.

ما لا يستوحيه خطاب المركزية الأوروبية من الطبيعة التطوّرية الداروينية، بوصفها معطيات موضوعية لا علاقة لها بالأحكام والخيارات الأخلاقية، يستلهمه من الفكر النيتشوي الذي يرفض وجود مرجعية قيمية وأخلاقية متعالية لها قيمة حقية صدقية كونية. وإذ هي كذلك، القوّة وحدها هي المرجع والقيمة والمطلب، من دون أيّ ادّعاءات أخلاقية. نعم إنه عالم موحّش مُعتم، ولكن هكذا هو ولا مفرّ. من جديد، تبرُز مفارقةٌ أخرى، ففي جانبٍ من هذا الخطاب النيتشوي يبدو أنه دعوة إلى الانعتاق الفردي من أي سلطة قيمية عليا، ولكنه، في الجانب الآخر، يتضمّن تمجيد القوة في صراع الإرادات والاختلافات: القوّة هي الحقّ، أو هي هكذا في مذهب المتغلّب، فلا عجب أن يستمدّ منه الفكر النازي. وهنا يلتقي خطاب التفوّق العرقي الذي يستمدّ من الطبيعة الداروينية التطورية، مع الخطاب النيتشوي الذي يطلق القوّة من القيود الأخلاقية، مع فكر المادية التاريخية الذي لا يدين الرأسمالية الاستعمارية حتى يراها آخر حلقات التطوّر الكوني الذي سبق به الغرب، شرطا وتمهيدا للحلقة الأخيرة في التطور التاريخي التي سيأتي معها الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ. فلسفات متخالفة تلتقي على ثابت واحد: التفوّق الغربي ومركزية الغرب، وثنائية المركز والأطراف التي تغذّي ازدواجية المعايير.

لم يكن الخطاب العنصري والفاشي هو موضوع الصراع، فمن اطّلع، مثلا، على أفكار تشرشل في الخندق المقابل تجاه شعوب المستعمرات البريطانية يعلم مدى عنصريّته. ولكن خطيئة هتلر الكبرى أنه ترجمها عمليا في المجال الحيوي الأوروبي نفسه، متوسّعا ومستعبدا فيه. ومن شأن تحقّق أهدافه في السيطرة على المركز أن يستتبع الهيمنة على الأطراف المستعمرة. ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تئنّ تحت وطأة الاحتلال النازي، وكانت بريطانيا تواجه التغوّل النازي بتكاليف باهظة، كانت كلّ منهما تمارس أبشع أشكال القهر والعنصرية في مستعمراتها، ومنها فلسطين.

وبينما كان الحلفاء يردّدون أنهم يدافعون عن العالم الديمقراطي الحرّ ضد ديكتاتورية هتلر، لبثوا يُنكرون حق الشعوب المستعمرة في الحرّية والاستقلال وتقرير المصير. فهذه كلها قيم ومطالب لا تليق إلا بالرجل الأوروبي الأبيض التي اكتسبها بتفوّقه مهما تكن أسبابها: مادية طبيعية، أم مادّية تاريخية. ولسوف تمتدّ هذه النظرة الاستعمارية وسياساتها بعد ذلك في سياق ازدواجية المعايير الحقوقية بين المركز والأطراف، فالديمقراطية والحقوق المدنية التي يتفاخر بها الغرب تختصّ بالمجتمع الغربي، ولا تنطبق على العلاقات الدولية، إذ تسيطر بضع دول عظمى على القرار الدولي وفق مصالحها وموازين القوى فيها. ونلحظ، في هذا السياق، الضغوط الهائلة التي مارسها الغرب الرأسمالي لإسقاط النظم الديكتاتورية والشمولية في الحيّز الأوروبي: إسبانيا والبرتغال واليونان ودول أوروبا الشرقية، حتى نجح أخيرا في ذلك، بينما بقي يعمل بكل جهده على إحباط التحوّلات الديمقراطية الحقيقية في دول الأطراف كي لا تتحرّر إرادة الشعوب من التبعية التي لا يضمنها لها غير الطغاة المرتبطين به ارتباطا وجوديا. ويمكن، في المقابل، التآمر لإسقاط نظام ديكتاتوري، فقط إذا حاول التحرّر من هيمنة المركز الغربي الرأسمالي.

وفي أثناء الحرب الباردة لم يتوقّف الكلام عن تصوير الصراع بأنه بين العالم الحرّ وإمبراطورية الشر والديكتاتورية والحكم الشمولي. والعالم الحرّ هو الغرب الرأسمالي تحديدا. أما الأطراف التابعة فلا يضرّ أن تحكمها نظم ديكتاتورية ما دامت تخدم مصالح المركز. وما إن انتهت الحرب الباردة، ودخلت الدول الأوروبية الاشتراكية في دين الرأسمالية والديمقراطية أفواجا، حتى رسمت حدودا جديدة للصراع على خطوط الحضارات، لا سيما الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية.

هل كانت فكرة صراع الحضارات قراءة تحليلية استشرافية لمعطيات موضوعية، أم كانت تمويها على خطّة استباقية لمواجهة طموحات التحرّر والنهوض والاستقلال في الحيّز العربي الإسلامي وإحالة الصراع إلى جذور ثقافية ودينية، بدلا من طبيعته الحقوقية؟

لماذا يكرهوننا؟ تساءل بعض كبرائهم، متجاهلين تاريخا طويلا من الهيمنة الاستعمارية، تجسّد أخيرا في زرع كيان استعماري وظيفي إحلالي استيطاني (إسرائيل)، أدّى إلى اقتلاع شعب فلسطين وتهجيره وحرمانه من حقوقه الإنسانية، مع أبشع أنواع العنف والتنكيل والإبادة والتنظيف العرقي.
يجري تجاهل ذلك كله للتركيز على أصول الاختلافات الثقافية الحضارية. وقد توحي عبارة صراع الحضارات أن طرفيها على صعيد أخلاقي واحد يتمثّل في رفض الآخر المغاير. ولكنه ليس كذلك، فهو في التصور الغربي صراعٌ بين حضارة غربية تمثل قيم العقلانية والتنوير والحرّيات المدنية والتقدّم والعلم وبين حضارة التخلف والهمجية والظلامية والخرافة والعنف، ورفض الاختلاف والتعددية. وبما هي كذلك، فهي تمثّل تهديدا للمكتسبات الإنسانية والحضارية التي حقّقها الغرب الذي يجب أن يدافع عنها من أجل الإنسانية جمعاء، فهي معركة الخير مع الشر. وبذلك، يصبح المتغلّب في وضع الدفاع عن النفس تحت غطاء أخلاقي ويجرم المغلوب، وتحمل الضحية مسؤولية نكباتها ودمائها، فهي القاتل وإن كانت القتيل. والظالم لنفسه ولغيره وإن كانت المظلوم، والمعتدي وإن كانت المعتدَى عليه، وعدو الحريات وإن كانت مسلوبة الإرادة والحرية!

ولمّا كان الكيان الصهيوني امتدادا للمركز الغربي الاستعماري المتفوّق ماديا وإنسانيا، فمهما يسرف في القتل والعدوان، فلا يخرُج عن حق الدفاع عن النفس وعن قيم الحرّية والتقدم والديمقراطية!
ومن المؤسف أن بعض حركات التطرّف والإرهاب التي كان بلاؤها على المجتمعات العربية والإسلامية أعظم منه على الغرب قد أمدّت الغرب بذريعة أخرى لتعزيز فكرة صراع الحضارات. وكانت طوق النجاة لإرهاب الدولة العربية الرسمي، إذ صرفت الأنظار عنه، وقصمت ظهر المعارضة على الجملة، وساهمت في إجهاض الانتفاضات الشعبية ضد الاستبداد والفساد. وإذ عمل الغرب وموالوه في بلادنا على ردّ الإرهاب إلى جوهر الإسلام ونصوصه، هان عليهم بعد ذلك أن يجمعوا التيارات والتوجّهات الإسلامية في سلة واحدة مع “داعش” وأخواته. وعلى ذلك، تصبح مقاومة الاحتلال والحصار نشاطا إرهابيا ينبغي التحالف على محاربته كما وقع التحالف للقضاء على داعش.

وهنا يتم عزل هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عن سياقه التاريخي وظروفه الموضوعية وأسبابه التي يتحمّل الكيان الصهيوني مسؤوليتها: اغتصاب الوطن الفلسطيني والتهجير القسري والإحلال والاحتلال والمستوطنات والمذابح والحصار وتجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه الإنسانية الأساسية، ولا كلام عن حقّ الشعوب الشرعي في مقاومة الاحتلال غير الشرعي، ولا عن القرارات الدولية التي ضربت إسرائيل بها عرض الحائط، ولا عن تنكّرها لاتفاقيات السلام المخلّة أصلا بالحقوق الفلسطينية، ولا عن رفضها المبادرة العربية للسلام في مقابل التطبيع الكامل والاندماج في المنطقة. يجري تجاهل ذلك كله، ليقرّر الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها!

لا حقّ للشعب الذي يكابد الاحتلال وجرائمه على مدى عقود طويلة في المقاومة، ولقوى الاحتلال أن تدافع عن نفسها ضد الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال، فأيّ مهزلةٍ سوداء وقلب فاضح لحقائق الواقع. وفي وسطنا العربي، تجد من يتماهى مع هذا الخطاب الغربي الاستعماري الصهيوني. ولا عجب، فالاستلاب والتغريب وكره الذات سماتٌ عامةٌ في هذا التيار الليبرالي الجديد المتصهين، الذي لا يرى في الغرب إلا قيم التنوير والعقلانية التي تتناقض مع موروثنا الديني والثقافي الذي هو عندهم رأس الداء وأصل البلاء. ومن جديد، يجري تجاهل الطبيعة الحقوقية للصراع مع الكيان الصهيوني الذي ينتظم في الإطار الاستعماري الغربي.

وهكذا تجد المقاومة، مهما يكن توجّهها العقدي، محاصرةً في الوسط العربي نفسه بين النقائض؛ أنموذج التطرّف الإرهابي الداعشي الذي اختطف الإسلام ومعاني المقاومة والجهاد، وتم تعميمه زورا لوصم المقاومة ذات التوجه الإسلامي به، وأنموذج شيوخ السلطان الذين يحرّمون المقاومة، على الأقل حتى تكتمل أشراطها، وعلى رأسها أمر الإمام وولي الأمر (وهو جزء من المشكلة، لا الحل) وبين الأنموذج الليبرالي المتصهين الذي يمكن أن يصل به الأمر إلى الانحياز المعلن لإسرائيل. وهذا بالطبع إلى جانب الحصار الإسرائيلي نفسه، ومن ورائه الإمبريالي الغربي، ومعها جميعا النظام السياسي العربي الرسمي (المتخاذل أو المتواطئ)، بل كذلك سلطة أوسلو. ولا أعلم حركة تحرّرية واجهت هذا العدد من الحصارات.

وحتى من أقام على أيديولوجيته اليسارية والقومية يبدو خجولا في دعمه مقاومة تتعبأ وتعبئ بالمرجع الإسلامي، وإنْ تُعلن بصوت مسموع أن معركتها في الأساس حقوقية، لا صراع أديان وثقافات وأعراق، فالتناقض الإيديولوجي والفئوي ما زال مقّدما عند الكثيرين على التناقض الرئيسي مع الغُزاة والطغاة، فيأخذ من رصيد الجوامع الوطنية والحقوقية والصراع مع العدو الغاصب المحتل، وكان الأجدر أن يوضَع التدافع الإيديولوجي على محكّ التسابق في مقاومة العدو الوطني والقومي الواحد.

ولا أعلم حركة تحررية واجهت هذا العدد من الحصارات، في زمن اختفى فيه خطاب الثورة العالمية والتحرّر الذي كنا نجد فيه سندا سياسيا عالميا في مناخات الحرب الباردة. والحال أن الحرب الباردة كانت بين قطبين، كلاهما ينتمي إلى المركز الأوروبي شرقه وغربه. فلمّا انهار القطب الشرقي منه انهارت معه أطرافه وحواشيه، وانتقل معها إلى تبعيّة القطب المتغلب.

والآن ونحن نشهد التواطؤ الرسمي الغربي حول غزّة، ترشح فكرة صراع الحضارات تمويها على الطبيعة الحقوقية للصراع. على أنه لا ينبغي أن نُستدرج إلى تعزيز هذا الخطاب بلغة المفاصلة الحضارية، فكما أن الشرق ليس ماهية واحدة متجانسة ثابتة لا تاريخية، كما اختلقه الخطاب الاستشراقي الذي أنتجه المركز الغربي في سياسة علاقات القوّة والسيطرة، فإن الغرب كذلك ليس ماهيّة واحدة صلدة وثابتة ومتجانسة، فثمّة تيارات فكرية هناك عملت على تفكيك خطاب المركزية الغربية، وثمّة مفكرون انحازوا إلى المستضعفين والمهمّشين أفرادا وجماعات وشعوبا ومجتمعات، ومن بينهم مفكّرون وأعلام يهود وجماعات يهودية. يضاف إلى ذلك ما شهدنا في أثناء حرب غزّة هذه من تحوّل شعبي عالمي واسع غير مسبوق تأييدا للحقوق الفلسطينية وإدانة للفظائع الإسرائيلية في مشهدٍ جامع للأعراق والألوان والعقائد. ولا شك أن وسائط الاتصالات الحديثة قد ساهمت مساهمة عظيمة في هذا التحوّل الذي يبشّر بوعي عالمي جديد. وهو ما يدعو إلى استثماره واستدامته من خلال جهود مؤسّسية استراتيجيّة منظمة، تعمل على إعادة رسم خطوط الصراع من قسمة الحضارات المضلّلة إلى قسمة الحقوق والعدالة والتحرّر التي تقطع حدود المجتمعات والحضارات في مقابل قوى الهيمنة الإمبريالية والمصالح الرأسمالية المتوحّشة التي تدفع ثمنها الشعوب المستضعفة وشعوب المجتمعات الغربية نفسها.

ولعلّ هذا التحوّل المنشود، إذا ترجم إلى جبهة عالمية، تمدّها ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، أن يُحدث مع الزمن شروخاً بنيوية في النظام العالمي، تعي معها شعوب الغرب نفسه أن الأمن والسلام والتقدّم والازدهار لا تتحقّق لأي طرفٍ إلا في منظومة شاملة تسع العالم كله، وتجمع بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، كما تشمل الديمقراطية في العلاقات بين الدول. ويستتبع ذلك التحوّل المنشود في المركز الغربي نفسه تحوّلات في الأطراف التابعة، ومنها البلاد العربية نحو التحرّر من التبعية، ومن ثم النهوض والديمقراطية الحقيقية التي تعبر عن إرادة الشعب. وبذلك يتجسّد الشعار القديم الذي يؤكّد العمق العربي للقضية الفلسطينية، والعلاقة الشرطية بين هدف تحرير فلسطين وهدف التحرّر العربي، بوصف القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، أو هكذا ينبغي أن تكون. بل يمكن أن تصبح كذلك قضية مركزية عالمية تتعالق بها قضايا الإنسانية الأخرى.

ولو تصوّرنا تحقق هذا كله، فلقد يصح عندئذ ذلك القول الذي يتكرّر الآن: “فلسطين تحرّرنا”. … تُراني استغرقت في الحلم؟ ولكن، هل لنا خيارٌ غيره؟ فليكن على الأقل خريطة طريق.. نقارب ما استطعنا. فإنما هي إحدى قيامتين؛ القيامة بمعنى الانبعاث والنهوض، أو القيامة بمعنى النهاية والدمار الشامل.

 

المحتوى ذو الصلة