تختلف الجولة الحالية من الصراع المسلح بين إسرائيل والعالم العربي اختلافا جوهريا عن كل الجولات السابقة. وحين نتحدّث عن جولات سابقة، ينبغي أن نميز بين مرحلتين، الأولى: التي تعيّن فيها على الجيش الإسرائيلي مواجهة جيوش نظامية لدول عربية اختلف عدُدها من جولة إلى أخرى. وقد بدأت هذه المرحلة عقب إعلان قيام دولة إسرائيل مباشرة، واستمرّت حتى منتصف السبعينات، وشهدت خمس حروب متتالية في: 1948 و1965 و1967 و1973، إضافة إلى حرب الاستنزاف (1968 – 1970). الثانية: تلك التي تعيّن فيها على الجيش الإسرائيلي مواجهة فصائل المقاومة المسلحة. وهذه المرحلة مستمرّة منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وشهدت جولات قتال عديدة، بعضها في مواجهة حزب الله اللبناني وبعضها الآخر في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، خصوصا تلك الموجودة في قطاع غزّة بعد سيطرة “حماس” عليه.
حُسمت جولات القتال التي جرت إبّان المرحلة الأولى لصالح إسرائيل. فحرب 48 انتهت باحتلالها أراض فلسطينية تزيد مساحتها بنسبة 50% عن المساحة المخصّصة لها في قرار التقسيم، وبالتوقيع عام 1949 على اتفاقيات هدنة مع الدول العربية المجاورة. وفي حرب 56، تمكّنت إسرائيل من احتلال سيناء. صحيحٌ أنها اضطرّت للانسحاب منها تحت ضغط دولي، لكنها حصلت، في النهاية، على مكسب سياسي ما كان يمكنها الحصول عليه بدون هذه الحرب، وهو موافقة مصر على السماح للسفن الإسرائيلية بالمرور من مضيق تيران. وفي حرب 67 تمكّنت من احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، إضافة إلى سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. وفي حرب 73، تمكّنت من تحقيق مكاسب سياسية، رغم تحقيق الجيشين المصري والسوري انتصارات عسكرية مهمة في بداية هذه الحرب، لكنها لم تترجم إلى إنجازات سياسية على الأرض، بل وقادت إلى هزيمة سياسية كبرى، تمثلت في خروج مصر من المعادلة العسكرية للصراع مقابل عودة سيناء منزوعة السلاح للسيادة المصرية.
أما جولات القتال التي جرت إبّان المرحلة الثانية، فقد عجزت إسرائيل عن أن تحقّق خلالها أيا من أهدافها المعلنة، والتي تمحورت دوما حول القضاء نهائيا على كل فصائل المقاومة المسلحة، لبنانية كانت أم فلسطينية، وخصوصا أن إسرائيل كانت الطرف المبادر بالقتال في جميع هذه الجولات. فعقب كل جولة، كانت فصائل المقاومة تخرج أقوى مما كانت عليه. أما جولة القتال الحالية، والتي أطلقتها عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فتختلف عن كل ما سبقها، من زاويتين على الأقل. الأولى: باعتبارها الجولة الوحيدة التي أمسكت فيها إحدى الفصائل بزمام المبادرة، حين قرّرت شن هجوم عسكري كبير ومفاجئ على الجيش الإسرائيلي داخل منطقة محتلة قبل حرب 1948. والثانية: باعتبارها أطول مواجهة عسكرية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث بدأت في 7 أكتوبر ولا تزال مستمرّة. وليس من المستبعد أن تستمرّ عدة شهور أخرى. لذا يتوقّع أن تفضي إلى نتائج على صعيد القضية الفلسطينية مختلفة كليا عن نتائج الجولات السابقة.
لم تعلن “حماس” عن الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية لعملية طوفان الأقصى، حيث اكتفت، في بيانها الأول، بالتأكيد على أن ما قامت به رد فعل طبيعي على الاعتداءات المستمرّة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين كل يوم، خصوصا اعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى، والتي تصاعدت بشدّة أخيرا، غير أنها أدركت، في الوقت نفسه، أن ما حققته هذه العملية من إنجازات على الصعيد العسكري، والتي كانت من الضخامة التي لم يتوقعها أحد، سيثير ردود فعلٍ بالغة العنف، ليس من إسرائيل فحسب، وإنما أيضا من حلفائها أيضا، خصوصا الولايات المتحدة، التي سارعت إلى إرسال حاملات طائرات وقطع بحرية أخرى، لترسو بالقرب من الشواطئ الإسرائيلية، وأقامت، في الوقت نفسه، جسرا جويا لمدّ إسرائيل بكل ما تحتاجه من أحدث أنواع الأسلحة، كما طلبت من الكونغرس رصد اعتمادات إضافية من المساعدات لإسرائيل تزيد على 14 مليار دولار. ولأن الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، رغم مشروعيته، ليس هدفا في حد ذاته، خصوصا حين يتسبّب في إطلاق العنان لآلة الحرب الجهنمية الإسرائيلية، فقد توقف ما يمكن التوصل إليه من إنجازات حقيقية في هذه الجولة على قدرة “حماس” على إدارة مرحلة ما بعد الطوفان! ولا جدال في أن صمودها في القتال أكثر من سبعة أسابيع متواصلة، من ناحية، والتفاف كل الشعب الفلسطيني حولها، من ناحية أخرى. رغم ما قدّمه سكان القطاع من تضحيات هائلة بسبب إطلاق العنان لآلة الحرب الإسرائيلية التي تجاوزت همجيّتها كل الحدود، يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأننا إزاء مرحلة جديدة ومختلفة نوعيا من مراحل تطوّر الصراع العربي الإسرائيلي. فحين ردّت إسرائيل على “طوفان الأقصى” بعملية عسكرية مضادّة، أطلقت عليها اسم “السيوف الحديدية”، صرّح رئيس الحكومة، نتنياهو، بأن غرضها الأساسي تدمير “حماس” وإسقاط حكمها في غزّة. لكن ما إن بدأت رحى الحرب حتى تبيّن أن إسرائيل تريد انتهاز فرصة تصوّرت أنها أتيحت لها، خصوصا في ضوء انحياز الولايات المتحدة الأعمى لها، لتوسيع نطاق أهدافها لتشمل إخلاء قطاع غزّة من سكانه تماما، بإجبارهم جميعا على النزوح إلى سيناء، وتكثيف الضغوط العسكرية والنفسية في الوقت نفسه على سكّان الضفة الغربية، أملا في إجبارهم على الرحيل إلى الأردن، الآن أو في المستقبل المنظور. ومن ثم لم تتردّد في ارتكاب جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فقد أدت غاراتها الوحشية إلى قتل وجرح ما يقرب من مائة ألف شخص، نصفهم من النساء والأطفال، وكثيرون منهم ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض، وقطعت إمدادات الغذاء والمياه والكهرباء والطاقة والاتصالات عن كل سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، في محاولة مفضوحة ليس للانتقام فحسب، وإنما أيضا لارتكاب إبادة جماعية تفتح الطريق أيضا أمام الترحيل القسري.
رغم ذلك كله، الأداء العسكري المعجز لـ”حماس” والصمود الأسطوري لسكان القطاع حالا معا دون تمكين إسرائيل من تحقيق أيّ من أهدافها العسكرية أو السياسية، فبعد إذلال الجيش الإسرائيلي بطريقة غير مسبوقة في أيّ من المواجهات العسكرية التي خاضها الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، وصمودها في المواجهات القتالية التي دارت ضد آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروتها وعنفوانها، ها هي “حماس” تدير ملفّ الأسرى باقتدار بالغ، وبرؤية استراتيجية تنم عن حنكة سياسية وعن فهم عميقيْن لما يجري من تحوّلات، سواء داخل المجتمع الإسرائيلي أو على الصعيدين الإقليمي والعالمي، فقد استطاعت، من خلال إدارتها هذا الملفّ، أن تُجبر إسرائيل ليس فقط على القبول بفترات هدنٍ صغيرةٍ فحسب، تتحكّم “حماس” في وتيرتها، وإنما أيضا على القبول بإدخال مساعدات إنسانية تكفي لتخفيف حجم المعاناة التي يكابدها سكان القطاع.
صحيح أن نتنياهو يهدّد، في نهاية كل هدنة، باستئناف القتال، ويصرّح بأنه لم ولن يتخلى قيد أنملة عن أيٍّ من أهدافه، غير أن الواقع على الصعيدين السياسي والعسكري يفيد بأن خياراته باتت محدودة تماما، فهو يريد إطالة أمد القتال، لأنه يدرك يقينا أن توقفه نهائيا سيؤدّي حتما إلى إطاحة حكومته، لكن استئناف القتال لن يمكّنه من تحقيق ما عجز عن تحقيقه طوال 50 يوما. ولذلك حتى لو عاد إليه سيكون ذلك لفترة قصيرة سيضطرّ بعدها لاستئناف المسار السياسي لإنقاذ الرهائن، ولكن من موقف تفاوضي أضعف هذه المرّة. ولأنه لا يستطيع أن يتخلّى عن إنقاذ باقي الرهائن، لأن الوضع الداخلي في إسرائيل لا يسمح له بذلك، فالأرجح أن يواصل عملية التفاوض حتى النهاية. وحين يأتي الدور على إنقاذ الرهائن العسكريين، فستجبره “حماس” حينئذ على دفع أثمان سياسية كبيرة، إذ يتوقع ألا تكتفي حينئذ بطلب “تبييض” السجون الإسرائيلية، بالإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين، وإنما على الأرجح بوقف القتال والانسحاب من كامل قطاع غزّة أيضا.
عندما تصل المفاوضات الخاصّة بملفّ الرهائن إلى هذه النقطة، يتوقع أن تنشط الوساطات الدولية للبحث عن غطاء سياسي، ومن ثم ليس من المستبعد انخراط الولايات المتحدة بنشاط في هذه العملية، وخصوصا أنها أكّدت، في تصريحات سابقة، على مجموعة لاءاتٍ تعكس موقفا مختلفا عن الموقف الإسرائيلي: لا للاحتلال المستدام، أو حتى فترة طويلة، لقطاع غزّة، ولا لقضم أي مساحة من القطاع تحت أي حجّة أو ذريعة، ولا للتهجير القسري للفلسطينيين إلى خارج القطاع، ولا للعودة إلى الوضع في القطاع إلى ما كان عليه قبل 7 أكتوبر. لذا على “حماس”، والتي حقّقت إنجازا عسكريا هائلا يمكن استثماره لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، أن تبحث عن طريقة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على نحو يساعد على استثمار ما تحقّق بدلا من إهداره.