“تجرّأ” الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، على القول إن “الاحتلال (الإسرائيلي) وما يحدُث للفلسطينيين لا يطاق”، فثارت عاصفةٌ من الانتقادات اليهودية الصهيونية وحلفائها ضده، متهمة إياه بأنه “يحمل كرهاً عميقاً لإسرائيل”. لم يشفع للرجل أن سياق تصريحه ذاك ابتدأه بإدانة حركة حماس والهجوم الذي شنّته في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني على مواقع عسكرية إسرائيلية ومستوطنات محيطة بقطاع غزّة، واصفاً إياه بـ”المروّع”، وإدانته كذلك “جنون معاداة السامية”. كما لم يشفع له أنه خلال رئاسته أيّد إسرائيل ودعمها سياسياً وعسكرياً في عدوانين وحشيين شنّتهما على القطاع، عامَي 2012 و2014، فضلاً عن رفعه قيمة المساعدات العسكرية الأميركية السنوية لها من 3.1 مليارات دولار إلى 3.8 مليارات دولار. لم يشفع ذلك كله له، فثمَّة من يسعى إلى جعل أي انتقاد لإسرائيل وجرائمها خطّاً أحمر ممنوعا تجاوزه، أو حتى الاقتراب منه.
حدث الأمر نفسه مع الممثلة الأميركية الشهيرة، الحائزة على جائزة أوسكار، سوزان سراندون، لمجرّد أنها “تجرّأت” على المشاركة في مسيرة ضخمة في نيويورك دعماً للفلسطينيين، ومخاطبتها الجموع المشاركة فيها: “لا يحتاج أحدٌ أن يكون فلسطينياً ليهتم بما يحدُث في غزّة. أنا أقف مع فلسطين. لا أحد منا حرٌّ حتى يتحرّر الجميع. حان الوقت لكي تتحرّر فلسطين”. مضيفة: “بات كثيرون من الناس يشعرون بالخوف الآن، لا سيما اليهود منهم، الذين يتذوّقون ما شعر به المسلمون في هذا البلد، والذين يتعرّضون في أحيانٍ كثيرة للعنف”، مدينة بشكل واضح وصريح “معاداة السامية والإسلاموفوبيا”. مباشرة تمَّ اتهامها بـ”معاداة السامية”، وأعلنت وكالة UTA، التي تدير أعمالها وأعمال مشاهير آخرين في “هوليوود”، إنهاء علاقتها بها. ليس بعيداً عن ذلك ما جرى مع الممثلة الأميركية، ميليسا باريرا، التي “تجرّأت”، هي الأخرى، على أن تعلن عبر حسابها الخاص على “إنستغرام” أنه يتم “التعامل مع غزّة أنها معسكر اعتقال… حيث تم حشر الجميع معاً، بلا ماء أو كهرباء أو مكان آخر يمكنهم اللجوء إليه”، ووصفت ما يحدُث هناك بأنه “إبادة جماعية وتطهير عرقي”. وعندما دانت في منشور آخر لها تركيز “وسائل الإعلام الغربية” على الجانب الإسرائيلي فقط، متسائلة “لماذا يفعلون ذلك؟ سأدعك تستنتج بنفسك”، رُميت مباشرة بتهمة “معاداة السامية”. ليس هذا فحسب، فقد أعلنت الشركة المنتجة لسلسلة أفلام الرعب الأميركية Scream”، Spyglass” استبعادها من بطولة الجزء السابع من السلسلة، بذريعة أن “الشركة لا تتسامح مُطلقاً مع معاداة السامية أو التحريض على الكراهية بأي شكل، بما في ذلك الإشارات الكاذبة إلى الإبادة الجماعية، أو التطهير العرقي، أو تشويه الهولوكوست أو أي شيء يتجاوز الخط بشكل صارخ إلى خطاب كراهية”.
ما سبق غيضٌ من فيض في سياق مساعي اللوبي الصهيوني وحلفائه في الولايات المتحدة تحديداً، والغرب عموماً، منع أي انتقادٍ لإسرائيل أو حتى طرح أسئلة عن سياساتها والجرائم التي ترتكبها عبر مماهاة ذلك بـ”معاداة السامية”. ويجد كل من يتجاوز هذا “الخطّ الأحمر” المزعوم نفسه عُرضة لحملات تشويه وتحريض، وربما انتقام، سواء عبر الطرد من الوظيفة والدراسة، وهو أمرٌ ذهب ضحيته عشرات المهنيين والأساتذة الجامعيين والطلاب، أم عبر الاستهداف السياسي والأمني، كما يجري مع أعضاء من الكونغرس الأميركي الناقدين لإسرائيل، أو بعض الناشطين المؤيدين للحقوق الفلسطينية. وفي حين لا تتردّد المنظمّات الصهيونية الأميركية في تقديم ملايين الدولارات لمرشّحين محسوبين عليها لمنافسة أعضاء في الكونغرس لا ترغب فيهم، مثل النائبة الأميركية من أصل فلسطيني، رشيدة طليب، والتي عرضت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) على مرشّح آخر 20 مليون دولار إن نافسها على مقعدها، يتم اتهام المؤيدين للحقوق الفلسطينية بمحاولة شراء نفوذ في الكونغرس للتأثير على سياساته إن قدّموا مساهمات سياسية ببضعة آلاف من الدولارات. حدث ذلك معي، حيث شَهّرَت بي مواقع إعلامية أميركية محسوبة على اللوبي الصهيوني، لأني تبرّعت لحملات انتخابية لمرشّحين وأعضاء كونغرس بمبلغ قد لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار خلال عامين. في حين تتهمني المواقع نفسها بـ”معاداة السامية” لإصدار المؤسّسة التي أرأسها، “أميركيون من أجل العدالة في فلسطين”، تقريراً عن مساهمات منظمات اللوبي الصهيوني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، العام الماضي، والتي بلغت عشرات الملايين من الدولارات.
قد يقارب بعضهم هذه البلطجة الصهيونية أنها دليل قوّة وسطوة، وهي كذلك، إلا أنها تخفي وراءها أمارات ضعف وقلق. يدرك اللوبي الصهيوني في بعض الدول الغربية، وتحديداً في الولايات المتحدة، التغيرات البنيوية في المزاج الشعبي الغربي نحو ما يوصف بـ”الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي”. وأصبح من الثابت قطعاً أن الأجيال الشابّة أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين منهم مع إسرائيل. ولعل في موقف هذه الشريحة من العدوان الجاري حالياً على قطاع غزّة دليلا ساطعا على ذلك. مثلاً، أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة “NBC News”، قبل أيام، أن 70% من الناخبين الأميركيين الذين أعمارهم بين 18-34 عاماً لا يوافقون على الطريقة التي تعامل بها الرئيس، جو بايدن، مع “الصراع” في قطاع غزّة حتى الآن. وترى الأغلبية في تلك الشريحة أن ردَّ إسرائيل على هجوم 7 أكتوبر تجاوز الحدود وغير مبرّر (42%) مقابل 31% يرونه مبرّرا. لكن الشريحة نفسها أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين بشكل كبير مقابل إسرائيل. وهو الأمر نفسُه الذي نجده في بريطانيا، إذ تفيد الاستطلاعات بأن 23% منهم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، مقابل 7% فقط لإسرائيل.
تدرك إسرائيل وأنصارها واعتذاريّوها في الغرب أنهم يخسرون معركة الأفكار والجيل الشاب الناشئ فيه، غير أن صلف القوة والعنجهية يدفعهم إلى محاولة إخراس هذا الجيل، بدل محاولة كسبه. وهم، في الوقت نفسه، يحاولون قمع كل من يجرؤ على الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وتقديم سرديتهم العادلة وتجريمه وتشويهه. لكن، وكما قالت الممثلة الأميركية، باريرا، المشار إلى قصتها آنفاً، بعد استبعادها من بطولة فيلم “Scream”: “في نهاية المطاف.. أُفضّل استبعادي بسبب من أمثّلهم، بدلاً من تقريبي بسبب من أستبعدهم”. وباريرا تبلغ 33 عاماً. … إنها معضلة إسرائيل مع جيل جديد ليس في الغرب والعالم فحسب، بل في فلسطين أولاً، حيث لا يُجدي إرهابها وإجرامها في ردعه وكسر عزيمته.