دعني أُعِنْك على فهم السياق الحيويّ لهذه الآية، وانظر أين أنتَ فيها: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).
انتهى الفصل الأول من معركة أحد بمشهد انتصار قريش، وقد أصيب رسول الله ﷺ ، وشاع خبر مقتله، وارتقى العشرات من الصحابة، وأصيب الكثير منهم بجراحات دامية، وقُروح صعبة، وكادت أن تنهار معنويات الناس حتى خرجت فئة من الصحابة من المعركة ظانّين أن رسول الله ﷺ قد مات.
انسحبت قريش من أحد، وبدؤوا مسيرهم إلى مكة، فوصلهم نبأ نجاة رسول الله ﷺ، فقال بعضهم يتلاومون ويُراجِعون قائمة أهدافهم المرصودة لهذه الحرب “قتلُ محمد وتشريد أصحابه وسبي نسائهم”: (لا محمّداً قَتلتُم، ولا الكواعبَ رَدَفْتم، بئسما صنعتم!)، وقال آخرون: (ما صنعنا شيئاً! أصبنا أشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصِلهم قبل أن يكون لهم كرٌّ وفَرٌّ).
فوصلت المعلومات لرسول الله ﷺ، وترقّب أن يعودوا أدراجهم، ويستهدفوا المدينة، فأعلن التعبئة وسط الجروح والقروح، وقال: مَن يذهب في أثرهم؟ بلْ أمر ألا يذهب معه إلا مَن حضر المعركة بالأمس من الثابتين، فانتدب لملاحقة قريش سبعون من الصحابة الذين قادهم رسول الله ﷺ حتى حمراء الأسد.
وشحَن رسول الله ﷺ نفوس هؤلاء المقروحين الثابتين بوعدٍ مشفوع باليمين فيما سيحلّ على قريش إذا لقوهم: “والذي نفسي بِيده، لقد سُوِّمَت لهم حجارةٌ لو صُبِّحوا بها لكانوا كأمْسِ الذاهِب” -أي أنّ الله سيجعل عليهم علامات هلاكهم واحداً واحداً حتى يكونوا عدماً- وتحرّق الأجناد للقاء قريش بمِثل النيران يومين.
وتيقّنت قريش أن رسول الله ﷺ قد استجمع قوته، وظنوا أنه جاءه مدد، “وقد حَرِبوا”، وقال بعضهم لبعض: نَرْجِع من قابلٍ! -أي في السنة المقبلة- ، ولمّا تأكد رسول الله ﷺ من أنهم اتخذوا طريق العودة وسلكوه عاد مع أصحابه الذين أثقلتهم القروح في صورة عزّ أقفل بها مشهد الهزيمة، وحوّل النهاية إلى نصر معنويّ.
وفي الآية مستويات ودرجات: فهناك درجة من أصيب بالقرح ومسّه فصبر على قدر الله ورضي بقضائه؛ وهناك درجة من أصابه القُرْح بعد القَرْح، ونالت منه الجراح وعضّة السلاح، فتحاملوا على أنفسهم، واستجابوا لمرجعياتهم، وامتثلوا للأمر، والتزموا بالنفير؛ وهناك درجة مَن أحسن في ذلك النفير، واتقى الله فيه حق تُقاه، فلم يتردّد للحظة في يقينه وكأنّ شيئاً لم يُصبه من قبلُ… ولكلٍ درجات مما عملوا، ولمُحسِنهم الأجر العظيم من أول الصبر والرضا إلى فوريّة الاستجابة إلى إحسان الأداء.