“طول فترة العدوان المجنون وأهوال وفظائع الأحداث مُجهد حدّ الإعياء، شعور بالحزن لأكثر من أربعين يومًا، على نحو متواصل، ومتجدّد يومياً، هذا مُجهد جداً للقلب، ما كنت أتخيّل هذه الشعور، بل ما كنت أتخيّل وجوده أصلًا” تقول الرسالة، قبل أن تكمل في أسى:”أضف كل ذلك إلى العجز عن فعل شئ، هذا يولد شعورًا آخر بانعدام القيمة في نفسك وفي الحياة عموماً”.
هذا حال جيل جديد لم يعش حكاية فلسطين كاملة، جيل ولد في مناخ تعليمي وثقافي يدفع القضية إلى قاع جدول الاهتمامات، ومناخ سياسي يقمع كل محاولة للتمرّد على سياق التطبيع، المفروض ببطش سلطات عربية قرّرت في معظمها أن تكون على مسافة أقرب إلى الكيان الصهيوني منها إلى فلسطين. لا يقتصر الأمر على الشعب العربي فقط، بل أعاد صمود غزّة، رغم النزيف، أمام آلة الإجرام الصهيوني، المدعوم أميركيًا وأوروبيًا، فتح كتاب التاريخ وتطهيره من حشو الأكاذيب والأساطير المؤسّسة لكيان استعماري لقيط قام على اجتثاث شعب واستئصال رواية حقيقية وتثبت حكاية كاذبة مكانها.
حالة من الوعي تسري في جيل الشباب حول العالم، وكأن المقاومة في غزّة أشعلت ثورة ثقافية تذكّر بثورة 1968 العالمية التي امتدّت من باريس إلى طوكيو إلى الولايات المتحدة والبرازيل والجزائر، والبلاد الأفريقية وحتى إلى المدن العربية، ضد الإمبريالية الأميركية التي تشعل الحروب في كل مكان، في ذروة التوحش الأميركي في حرب فيتنام.
كان الشباب من الطلاب محرّكي هذه الثورة ووقودها، بوصفها ثورة فكرية وثقافية بالأساس اندلعت ضد الهمجية الاستعلائية المتغطرسة، وهذا ما نراه الآن في كل عواصم أوروبا والولايات المتحدة ومدنهما، من انتفاضات شعبية شبابية الطابع والملامح في وجه الجريمة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وهي الجريمة التي تشارك فيها واشنطن وعواصم الغرب الاستعماري القديم جنبًا إلى جنب الآلة العسكرية الإسرائيلية.
فتحت غزّة كل الملفات التي طويت على ركام من الأكاذيب المصنوعة بدقّة، كما رأينا مع الشباب الأميركي الذي قرّر استدعاء اسامة بن لادن وإعادة اكتشافه، وقراءة كارثة الهجمات على نيويورك من جديد، على ضوء السياسة الأميركية الصهيونية إزاء الشعوب العربية والإسلامية، وكأننا بصدد هزّة وجودية عنيفة دفعت جيل الشباب إلى التمرّد على كل ما ألقي في رأسه من أوهام وأكاذيب، ولا يختلف الأمر كثيرًا في لندن وباريس وبرلين، ذلك المثلث الذي يتمترس استعماريًا مقدمًا الدعم المطلق للعدوان الصهيوني، إذ صار كل سبت في هذه العواصم صمت غضب على الوحشية الإسرائيلية وعلى أكاذيب القادة والزعماء الذين يظهرون في هذه اللحظة عُراة من أي قيمة أخلاقية وقانونية، مع انكشاف وتساقط ما روّجوه من كذب صهيوني رديء الصنعة تبريرًا للجريمة.
بداية هذا العام، ومع صعود اليمين الصهيوني المهووس دينيًا إلى قيادة حكومة الاحتلال، كان العالم أمام الوجه الحقيقي لفكرة الكيان الصهيوني، وفلسفة إنشائه، مع تدشين تسليح المستوطنين وإطلاق أيديهم في الهجوم على بيوت الفلسطينيين في البلدات والمدن الصغيرة ومصادرتها والاستيلاء عليها، وكأن كل مستوطن صار نموذجًا مصغّرًا من مشروع احتلال فلسطين في بداياته بالقرن الماضي.
قلتُ وقتها إن هذا الذي يحدُث يعيد تعريف الكيان الصهيوني على الوجه الصحيح، عصابات احتلال يقودُها مجرمون، وليس دولة يحكمها سياسيون. هكذا بدأت إسرائيل، وهكذا تحيا، وهكذا سوف تنتهي، حيث يعتبر المستعمرون فلسطين كلها ساحة حرب، يتقدّم فيها المستوطنون على الجنود، ويتفوّقون في الكراهية والرغبة في الاجتثاث والإبادة، بحيث صار المستوطن (المدني البريء بمقاييس الملهاة) أكثر شراسةً في القتال والعدوان، ثم يصبح مطلوباً منك أن تدين فعل المقاومة وتجرّمه، لتحصل على شهادة متحضّر ومستنير.
قال نيلسون مانديلا “نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين”، وواقع الحال يقول إن العكس أيضًا صحيح: ستبقى حرية فلسطين مخطوفة ما بقيت حريات الشعب العربي مقتولة. أما العدوان الدي لم يتوقف منذ أربعين يومًا على غزّة فقد أعاد تصحيح التاريخ من زاوية صنّاع جريمة الاحتلال ورعاتها، وبالأخص الغرب العجوز الذي سلّم راية الاستعلاء الاستعماري للقوّة الباطشة الجديدة، الولايات الأميركية ، التي يتقاطع إنشاؤها مع إنشاء الكيان الصهيوني، لتستيقظ الأجيال الجديدة في شعوب هذه الدولة على وقع زلزال معرفي رهيب، مركزه غزّة، وارتداداته وتبعاته تطال العالم كله، وهو زلزالٌ سوف يغيّر العالم لا ريب. إنها ثورة فلسطين العالمية.