هذه ليست رسالة تطالب العالم بالنظر بعين العطف أو حتى التعاطف مع غزة أهلها، بل هي رسالة تحمل عدد من الحقائق والمعطيات، اللازمة لوضع بعض النتائج والسيناريوهات لما هو قادم.
وتتمثل أول هذه الحقائق في فشل كل محاولات الصهيونية ودولتها في تزوير حقيقة قضية فلسطين ومحاولات الانقلاب عليها، ولتتذكر إسرائيل ومن يقف وراءها من دول استعمارية على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، انه من الصعب إخفاء الحقائق وتزوير التاريخ في العام ٢٠٢٣. وقد تكون كلمات الوفود في مجلس الأمن والجمعية العامة التي صخبت بها أروقة المجلسين، ونداءات وشعارات مئات آلف المحتجين الذين يملؤون شوارع عواصم العالم حتى هذه اللحظة، على رأسها تلك الدول الاستعمارية سابقة الذكر، تكشف بوضوح حقيقة أن معظم دول العالم لم تنس قط واقع القضية الفلسطينية واحتلال فلسطين والنكبة الفلسطينية، التي جاءت بإسرائيل إلى الحياة. فجاءت هذه الحرب لتعلن صراحة أن العالم بشعوبه ومعظم حكوماته لم ينس القضية الفلسطينية، وأن الادعاءات والاكاذيب التي اختلقتها الصهيونية ودولتها لا تصدقها الا إسرائيل، وتجاريها في ذلك الدول الاستعمارية التي أوجدتها ودعمت بقاءها، لكن دون الإقرار بصحة تلك الأكاذيب.
وتركز الحقيقة الثانية على سقوط كل نظريات الولايات المتحدة وإسرائيل حول وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، تلك المحاولات التي عمل البلدان على فرضها بالقوة على شعوب العالم والمنطقة، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في انقلاب على الشرائع والأعراف، فجاء الرد الدولي الرسمي والشعبي مزلزلاً في هذه الهجمة العسكرية الإسرائيلية غير المسبوقة على غزة لتؤكد فشل جميع تلك المحاولات. فكانت أول إجابة من قبل معظم دول وشعوب العالم وحتى المنظمات الدولية المقيدة بإرادة الدول الاستعمارية المتحكمة بها، بأن الرد على ممارسات الاحتلال المتجبرة والمتبجحة دون محاسب أو مسائل ولسنوات طويلة لا يمكن بأي شكل من الاشكال أن تعتبر ارهاباً، وانما تعتبر مقاومة مشروعة لاحتلال طال.
أما ثالث هذه الحقائق فتتمثل في صعوبة إخفاء الجرائم التي يقترفها الاحتلال الاسرائيلي عن أنظار العالم في العام ٢٠٢٣، وكل محاولات فصل الانترنت وخطوط الاتصالات وتهديد الفضائيات صراحة واصطياد المراسلين وقلتلهم، لم يجد نفعاً، وكلما زاد الاجرام والقتل بحق المدنيين، فستزداد مشاعر الكره والاشمئزاز من ممارسات الاحتلال وداعميه، وستزداد طردياً أعداد التظاهرات والاحتجاجات في دول العالم، وسيزداد حرج الحكومات الداعمة لإسرائيل أو حتى المحايدة أمام شعوبها. ورابع هذه الحقائق تركز على كشف مدى الانحياز الأعمى للولايات المتحدة وأتباعها من الدول الغربية للرواية الإسرائيلية، المعروفة بادعاءاتها وأهدافها، حيث أخذت بها دون مراجعة أو تحقق أو تدقيق. فمررت الرواية الأميركية الادعاءات الإسرائيلية بـ “قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب”، وأعادت رواية الاحتلال حول قصف مستشفى المعمداني. ولأن عالم اليوم ليس هو ذاته العام ١٩٤٨، فمن عدل الادعاءات والأكاذيب صحف غربية أميركية وبريطانية، أعادت بث الحقائق ونفي الأكاذيب، مقدمة الدلائل، في عالم يصعب فيه اليوم إخفاء الحقائق.
وخامس الحقائق تتعلق بالدول العربية، خصوصاً المؤثرة منها، والتي أثبتت خلال هذه الأزمة عجزها عن التحرر من التبعية للولايات المتحدة والمنظومة الغربية. فالفلسطينيون ليسوا بحاجة للأموال والمساعدات اللوجستية بقدر حاجتهم لموقف سياسي صلب، يدعم الصمود والنضال الفلسطيني الاسطورى من أجل التحرر. اليوم في ظل تحولات دولية كبرى لصالح تطور مكانة الصين وروسيا على وجه الخصوص، وانسجام مواقف هاتين الدولتين حول حل القضية الفلسطينية مع موقف الدول العربية المعلن، كان يمكن تشكيل جبهة قوية تضغط على الولايات المتحدة والدول الغربية لحل عادل للفلسطينيين، خصوصاً في ظل استمرار تورط الغرب في أخرى في الجبهة الأوروبية.
وأهم هذه الحقائق على الاطلاق هي تلك الآتية من فلسطين، فالشعب الفلسطيني ورغم كل هذا الاجرام الذي مورس ضده، على مدار أكثر من قرن، يعود وفي كل مرة من تحت الأنقاض ليقاوم ويبقى، ولم ينجح الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني في تقويض ارادته قط. فهجوم إسرائيل الحالي على غزة ليس الأول، ولن يكون الأخير، وفي كل مرة تدمر آلة الحرب الإسرائيلية العنيفة البيوت والشوارع وتقتل الأطفال، ودون مساءلة، فيعود الفلسطيني ليبني ويعمر ويواصل نضاله من أجل البقاء والحرية. في الضفة الغربية، والتي تعد منزوعة من السلاح، الا من بعض البنادق والأسلحة الخفيفة، يشترى المناضل بندقيته من ماله الخاص، ويقف بصدره العاري أمام دبابات ومجنزرات الاحتلال، ويتم اغتياله بصواريخ الطائرات، دون مساءلة أو محاسبة. ويستمر النضال، بأبسط الأدوات، أمام أعتى الأسلحة، دون يأس أو كلل، في طريق اختاره الفلسطينيون حتى نيل الحرية المنشودة.
في ظل تلك الحقائق، تتبلور عدد من السيناريوهات حول مستقبل هذا الهجوم الإسرائيلي على غزة، في إطار عدد من المعطيات. قد تكون أهم تلك المعطيات هي تلك الأهداف التي تتطلع إسرائيل لتحقيقها بعد اتخاذها قرار الهجوم على غزة وغزوها برياً، وحدود تحملها لخسائرها في ظل استمراره. كما تعد قدرة حركة حماس في غزة على الصمود لصد العدوان في ظل طول أمده، من بين أهم تلك المعطيات. ولا يمكن اغفال أهمية المعطى الخاص بمدى إمكانية وحدود توسيع الجبهة الشمالية وتدخل حزب الله في ظل تطورات الهجوم على غزة، خصوصاً اذا اقترن ذلك بالتهديد الأميركي باشعال حرب إقليمية ضد بيروت وطهران. كما أنه من الصعب اغفال المعطى الخاص بإمكانية تدخل الولايات المتحدة لوقف الهجوم الإسرائيلي على غزة، في ظل تصاعد الرفض الشعبي العالمي لجرائم إسرائيل بحق المدنيين، وإمكانية انحدار المنطقة لحرب إقليمية، لا ترغب الولايات المتحدة بخوضها، في ظل انخراطها الفعلي في حرب على جبهة أخرى.
وتتضح أهداف إسرائيل من الهجوم على غزة ودخولها برياً من خلال ثلاث سيناريوهات، وضعها تقرير صدر عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بعد ستة أيام من بدء هذا الهجوم. ورغم أن تصريحات المسؤوليين الإسرائيليين قد حصروا تلك الأهداف بالقضاء على حماس، وعدم النية بالاحتفاظ بغزة بعد ذلك، الا أن تصريحات تهجير سكان القطاع عن وطنهم، والتي لا تزال تطلقها المؤسسة الإسرائيلية، يعد الهدف الرئيس الذي يعكسه ذلك التقرير دون مواربة. ويضع ذلك التقرير ثلاثة سيناريوهات تفترض جميعها حقيقةً واحدة فقط هي هزيمة الفلسطينيين في غزة. وبينما اعتبر التقرير أن السيناريو الأول والثاني يقوم على تولي السلطة في غزة، بعد نزع سلاح المقاومة وقتل كل مسلح فيها، من قبل السلطة الفلسطينية أو إدارة عربية أو دولية أو مشتركة بينهما، انتقد التقرير هذين السيناريوهين، معتبراً أن الأول يقوض استراتيجية إسرائيل بتعميق سياسة الفصل بين الضفة وغزة، لاستبعاد أي حل سياسي مستقبلي مع الفلسطينيين، والسيناريو الثاني لا يضمن انتهاء أثر وتأثير حركة حماس على السكان وتعاطفهم النفسي والثقافي معها.
ويرجح التقرير السيناريو الثالث، الذي يركز على طرد الفلسطينيين من ديارهم، اذ اعتبره التقرير أفضل الحلول. كما أن تلك التسريبات عن الصحف الإسرائيلية إسرائيل بإمكانية السماح لقادة حركة حماس، بما في ذلك جناحها العسكري، بمغادرة قطاع غزة بحرية مقابل إطلاق سراح جميع المحتجزين والأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، يأتي في اطار السيناريو الأول والثاني المطروح اسرائيلياً، والذي يركز على القضاء البنية التحتية للحركة في القطاع، لكنه لا ينفى تنفيذ السيناريو الثالث بعد ذلك. إن هزيمة المقاومة في غزة، وخسارة الفلسطينيين لارضهم، تعني باختصار خسارة الضفة لأخر ورقة ردع مؤثرة يمتلكها الفلسطينيون لمواجهة محتلهم، الأمر الذي يعني استمرار تنفيذ المقاربة الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين، بنفي حقوقهم، والتضييق عليهم في الضفة الغربية، واحلال المستوطنيين مكانهم، تمهيدا لطردهم، لأن ما يحاك لغزة بالتأكيد يحاك مثله وأكثر للضفة الغربية. ولا تعارض الولايات المتحدة هذا السيناريو، وروجت له بتضليل الفلسطينيين، بوعودها بارجاعهم في أعقاب الحرب.
وهناك سيناريوهان لردع إسرائيل عن استكمال هجومها المدمر على غزة، والقضاء على حركة حماس، رغم أن حماس فكرة وليست مجرد حركة مقاومة، والفكرة لا تموت، طالما السبب من وجودها بقي قائماً، يعتمد كليهما على التدخل الأميركي. يعتمد السيناريو الأول على الضغط الأميركي على إسرائيل لوقف استمرارعدوانها على غزة، تحت ضغط شدة تلك الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين، وتصاعد حالة الرفض الشعبي والدولي العالمي لاستمرار ذلك، وهذا السيناريو يعتمد على شدة الضغوط الدولية على الولايات المتحدة في هذا الاتجاه. ويركز السيناريو الثاني على تدخل الولايات المتحدة لدى إسرائيل لوقف هجومها في حال تأكدها من زيادة فرص حدوث حرب إقليمية، تتدخل فيها كل من إيران وحزب الله وأذرعها المنتشرة في سوريا والعراق واليمن، وهو الأمر الذي يتعارض مع مخططات وأهداف الولايات المتحدة في المنطقة. وقد هددت الولايات المتحدة بشن تلك الحرب في حال تدخل حزب الله، وجاءت بثقلها العسكري للمنطقة لردع أي تصاعد محتمل.
على مدار أكثر من عشرين يوماً واصلت حركة حماس وفصائل المقاومة مهاجمة صاروخية لمواقع إسرائيلية مختلفة داخل الخط الأخضر، في ظل قصف هجومي مكثف من البر والبحر والجوعلى مواقع مدنية فلسطينية، أوقعت آلاف الضحايا المدنيين معظمهم أطفال ونساء. كما بدأت فصائل المقاومة منذ أيام بصد الهجوم البري الإسرائيلي في غزة، في معركة يعتبرها الاحتلال بالصعبة. وقد تزيد فرص تدخل حزب الله في حال بدأت تضعف قدرة المقاومة في مواجه الاعتداء. وتعتبر إيران وحزب الله أن هزيمة حركة حماس في غزة تضعضع جوهرياً بنية حلف الممانعة، الذي يبني مبادئه وشعاراته على تحرير فلسطين ودعم فصائل المقاومة الفلسطينية الإسلامية فيها، ممثلة بحركتي الجهاد الإسلامي وحركة حماس. الا أن قرار إيران وحزب الله بتوسيع الحرب، قد يخضع أيضاً لحسابات المكسب والخسارة، خصوصاً في ظل التهديدات الأميركية بتدمير طهران وبيروت، وتبقى الموازنة واردة ما بين خسارة أحد أركان الحلف أو تعرض الحلف باركانه لخطر وجودي.
ويبقى سيناريو الحرب الإقليمية كسيناريو أخير مفتوح أيضا، على اعتبار أن دخول جبهات أخرى أو توسيعها، قد يكون الطريقة الوحيدة التي من شأنها تخفيف الضغط عن غزة ومنع هزيمتها، وخروجها من معادلة محور الممانعة، التي ستصبح في قمة هشاشتها بخروج غزة منها، في ظل استمرار هذا التصعيد الإسرائيلي المجنون على غزة، وعدم وجود جهة حكيمة قادرة على ردعه، واضطرار حزب الله للتصعيد أكثر، إما في إطار استراتيجية التصعيد المحسوب التي تتبناها اليوم، أو الاقدام على الهجوم الشامل، بعيدا عن الخطوط الحمراء، اذ يبقى انحدار الأوضاع الشديدة التوتر لدائرة التصعيد غير بعيدة عن المشهد.
إن حرب غزة اليوم هي حرب مصيرية للفلسطينيين، والنصر فيها هو السيناريو الذي يفترض أن يكون مرجحاً ليس فقط للفلسطينيين بل وللعرب وحلفائهم أيضاً. إن نصر الفلسطينيون في غزة سيجبر إسرائيل والولايات المتحدة والغرب على التفاوض لحل القضية الفلسطينية، كما حدث بعد حرب عام ١٩٧٣، والتي جاءت باتفاقية سلام في نهاية ذلك العقد، انسحبت على إثرها إسرائيل من سيناء وأخلت جميع مستوطناتها منها. فدولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وفق قرار مجلس الأمن ٢٤٢ لعام ١٩٦٧، وعاصمتها القدس، واخلاء جميع المستوطنات من الضفة الغربية، وضمان التواصل بين شطري الوطن المحتل (غزة والضفة الغربية) هو المبتغى الفلسطيني المشروع.