في غزوة العسرة؛ في السّنة التاسعة من الهجرة؛ اشتدّ الكرب، وتكالبَ الأعداء، واجتمع تحالفٌ يضمّ أربعين ألف جنديّ في تبوك هدفهم المعلن استئصال دولة المسلمين، والقضاء على المشروع الإسلاميّ.
كان المسملون في وضع اقتصاديّ بالغ القسوة حتّى سمي ذلك اليوم يومَ العسرة لشدة قسوته واحتياج المسلمين إلى المال، ولسوء الوضع الأمنيّ الذي كان يشهدُ حالةً من التوتّر والتأهّب العام، وأمّا الوضع اللوجستيّ فلم يقلّ عسرةً وقسوة، فالطقسُ شديدُ الحرارة، والمسافةُ بعيدة.
كلّ شيءٍ يوحي بالقسوة، وكلّ الظروف مجلّلة بالعسرة التي تزيد قسوتها على النفس.
وعندما استنفرَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه للنفير والبذل والعطاء؛ أفصح الإيمان عن نفسه فتسابق الصحابة الكرام إلى التجهّز والبذل بكل ما يملكون من نفس أو مالٍ ولو كان يسيرًا.
وكذلك أبانَ النفاق عن وجهه القبيح، وظهرَ في أبشع صورةٍ في ساعة الشدّة، ظهرَ تخاذلًا وتبريرًا باردًا للتخاذل، وأبشع ما يكون الخذلان يومَ العسرة، وأوجع ما يكون الخذلان في ساعات الشدّة.
بدأ المنافقون يبررون تخاذلهم بأعذار هي أقبح من الذّنب ذاته، فبعضهم بدأ يتذرّع بالظروف البيئيّة واللوجستيّة، ويسوّغ خذلانه بعدم ملائمة الظروف للمواجهة، وأنّ الحرّ الشديد غير ملائم للقيام بهذه المغامرة، وقالوا للناس: لا تنفروا في الحرّ، وكانوا مستبشرين بتخلفهم عن المواجهة ويبشرون النّاس أنّها ستكون القاصمة للمسلمين؛ فأنزل الله تعالى فيهم وفي أمثالهم في سورة التوبة: “فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ”
وأمّا الصنف الثّاني فبدأ يُلبِس تخاذله ونفاقه ثوبَ الفضيلة الأخلاقيّة، وأنّه لا يريد مشاركة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في المواجهة لأنّه يخشى على نفسه الفتنة الأخلاقيّة لا سيما إن رأى نساء الروم الشقراوات الجميلات؛ فأنزل الله تعالى في هذا الصّنف قوله في سورة التوبة: “وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ”
وفي ساعة العسرة والشّدة التي كان يعيشُها المسلمون ويستبشرُ بها المنافقون أنزل الله تعالى أمرًا للمؤمنين ورسالةً للمنافقين بأن يتذكروا يوم الغار وما كان فيه من تفاصيل؛ فنزل قوله تعالى في سورة التوبة: “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”
“إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ”
وهكذا يسدل الستار على المشهد بأقصر كلمات، وأبلغ عبارة، إعلانٌ صريح أنّ الله تعالى ليسَ بحاجةٍ لكم لتنصروا نبيه ودينه وشريعته؛ فهو الناصر، وهو القاهر، وهو القادر؛ بل أنتم من يحتاج إلى العمل والنصرة.
ثمّ يأتي الأمر بتذكّر مشهد إخراج النبيّ صلى الله عليه وسلّم ومكوثه في الغار؛ وحيثما رأيت “إذ” في القرآن الكريم فهي ظرفيّة بمعنى “حين” ويسبقها فعل أمر محذوف تقديره “اذكر”.
“إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ”
اذكروا حين أخرجه الكافرون من مكة وليسَ معه أحدُ إلا صاحبه الصدّيق رضي الله عنه؛ “إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ” واذكروا مكثهما في الغار ووصول المشركين إلى فم الغار بحثا عنهما يريدان قتلهما والقضاء على الإسلام ورسالته، “إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” واذكروا ذلك الحوار الخالد الذي يتردد صداه في كلّ زمان وفي أذن وقلب كلّ مخذول حين بكى أبو بكر رضي الله عنه حزنًا وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا؛ فجاء اليقين راسخًا ثابتًا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا تحزن إنّ الله معنا؛ يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!.
فماذا كانت نتيجةُ هذا اليقين، “فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”
واليوم في غزّة ظهر صنف المتخاذلين بأبشع صوره في يوم عسرتها، فقد تكالب الأعداء وتحالفوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وجاؤوا بحدهم وحديدهم يحادون الله ورسوله، وغزة في عسرة وشدة وحصار وشظف ومنع للماء والطعام والدواء وقسوة في المعيشة وتأهب وترقب، وقد أفصح النفاق والخذلان عن نفسه بأبشع صورة، فتحالف بعض من يفترض أنهم إخوة مع العدو، واكتفى بعضهم الآخر بإطلاق صواريخه الكلاميّة بينما سفارات وقنصليات العدو جاثمة فوق أرضه في صورة من أبشع صور الخذلان، وقد بدأ العدو حربه البريّة من كلّ أنحائها، ومجازره من الجو لا تتوقف؛ فيأتي يوم الغار في يوم عسرتها وشدتها تذكيرًا وتثبيتًا.
إلا تنصروها فقد نصرها الله؛ فالله ليس بحاجة نصركم لغزة، بل أنتم من تحتاجون ذلك، وأهل غزة يعلنون بكل يقين وقد وصل العدو فم الغار، وتخلى عنهم الأخ والصديق، واشتدت قسوة الحياة: “إنّ الله معنا” فسينالون العاقبة، وهي تنزُّل سكينة الله تعالى عليهم؛ وهل رأيتم سكينةً أعظم من سكينة أهل غزّة وهم تحت القصف والموت والدمار؟! وسيؤيدهم الله تعالى بجنود لا ترونها أيها المتخلّون والخاذلون، وسيجعل الله كلمة المعتدين سفلى لا تقوم لها قائمة ولا يبقى لها أثر بينما كلمةُ الله ستبقى عاليةً مرفوعةً أبدا.
هنيئًا لكم يا أهل غزة معيّة الله تعالى لكم كمعيّته لنبيّه يوم الغار، وهنيئًا لكم نصر الله تعالى لكم كنصره لنبيّة يوم العسرة، والعار كل العار للمتخاذلين والمزاودين.