في إطارِ الحرب على غزّة، يتسابق قادةُ الاحتلال على إطلاق تصريحات تخلق مناخًا مواتيًا للقتل والإبادة، مُستخدمين عبارات تحريضية لا لبسَ فيها. تتناغم أقوالهم مع أفعالهم، فهي لا تعبّر عن حالة غضب أو اندفاعة عاطفية في ظروف ضاغطة، بل إنّ الأفعال والأقوال تتطابقان في غالب الأحيان، وتعبّر عن سلوك تاريخي قائم على منهجية واحدة: النظرة إلى الفلسطينيين نظرةَ احتقار وعبودية. كما أن قادة غربيين أيّدوا العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، واعتبروا أنّها في حالة دفاع عن النفس ضد إرهابيين. وتأتي هذه التصريحات في ظلّ حالة توتر متواصلة، ما يؤجّج الصراع ويهيئ الأرضية لارتكاب مزيدٍ من الجرائم. فما هو التكييف القانوني لهذه التصريحات؟، وما هي الخيارات القانونية والحقوقيّة الممكنة؟
خطاب الكراهية في القوانين الدولية
لا يوجدُ تعريف موحّد لخطاب الكراهية في القانون الدولي، ولكن غالبًا ما يُعرَّف بأنه: أي شكل من أشكال التواصل الذي يهاجم أو يستخدم لغة تحقيرية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس هُويتهم، مثل العِرق أو الدّين أو الجنس، أو أي هُويَّة أخرى. كما أنَّ الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان- وإن كانت قد أشارت إلى خطاب الكراهية- لم تضع بشكل صريح وواضح آليات (قانونية) لمواجهة المحرّضين على الكراهية والعنف، باستثناء ما يصدرُ عن مجلس حقوق الإنسان أو نظام الآليات التعاقدية من توصيات لا تحمل قوةً إلزامية.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، تذكر الفِقرة 2 من المادّة 20 من العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسية لعام 1966: “تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية، أو العنصرية، أو الدينية تُشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف”. وكذلك تضمّنت كل من: اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965) إشارات لخطاب الكراهية.
إذا ما قرَّر المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق جِدّي وعاجل في جرائم الاحتلال خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، فإنّ تصريحات قادة الاحتلال ستصبح دليلا ملموسا لا يقبل الشكّ
جرائم فظيعة ارتُكبت نتيجة تحريض على القتل
إنَّ مراجعة الفظائع التي ارتُكبت أو التي يجري ارتكابُها في عالم اليوم، تثبت أن النزاعات التي تستند إلى خطاب الكراهية هي أكثر تدميرًا للإنسانية من النزاعات التقليدية، حيث إنها تستند إلى الكراهية والعنف، وليس إلى الخلافات السياسية أو الاقتصادية. لقد ثبَت في الواقع أنَّ قيام الآلاف من المتورّطين في مذابح في المسلمين في البوسنة، (مجزرة سربرنيتسا نموذجًا)، لم يكن بدافع غريزي للقتل، بل يعود ذلك إلى خطاب الكراهية والتحريض الذي تمّ نشره من خلال وسائل الإعلام وغيرها من الوسائل.
لقد تم تشكيل محاكم جنائية خاصة بالبوسنة والهرسك ورواندا، واعتبرت خطابات الكراهية والتحريض جرائم يتوجّب المحاسبة عليها.
رادوفان كاراديتش: رئيس جمهورية صرب البوسنة والهرسك خلال الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك، أُدين بالتحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية في سربرنيتسا.
ميلوشيفيتش: رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، أُدين بالتحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك والجرائم ضد الإنسانية في كوسوفو.
جوزيف كوني: زعيم حركة تحرير أوغندا (LRA)، أدين بالتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاغتصاب والقتل.
التكييف القانوني لتصريحات قادة الاحتلال
خطاب الكراهية يتدرج من الأشدّ خطورة إلى الأقلّ، فقد يشكل هذا الخطاب جريمة جنائية إذا استوفى معايير التحريض الجنائي، وقد يكون مسوغًا لدعوى مدنية أو عقوبات إدارية إذا لم يصل لهذه الدرجة، وقد لا يستدعي هذه ولا تلك. ولوصول التحريض على الكراهية إلى عتبة الجرائم الجنائية، يجب توافر عدة عوامل تتمثل في: بيئة مواتية وخطيبٍ مؤثر (ذي منزلة سياسية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها)، تتجه نيته للتحريض، وفئة مستهدفة، ومحتوى تحريضي واضح. دأب قادةُ الاحتلال السياسيون والدينيون منذ نشأة دولة إسرائيل على إطلاق تصريحات صريحة لقتل وتهجير الفلسطينيين، وبما أنَّ التاريخ زاخرٌ بها، فنكتفي بعرض أحدثها، خصوصًا تلك المرتبطة بالحرب الدائرة على قطاع غزة.
في تصريح له 9/10/2023 خلال اجتماع في القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، قال وزير الدفاع يوآف غالانت: “لقد أمرت بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام. نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وَفقًا لذلك”.
في 19/8/2023 دعا رئيسُ حزب شاس المتطرّف إيلي يشاي إلى حرب شاملة على قطاع غزة، قائلًا: “يمكن تدمير غزة كي يفهموا أنّه يجب ألا تتمّ إغاظتنا، يجب تسويتهم بالأرض، ولتهدم آلاف المنازل، والأنفاق والصناعات.”
النائبة عن الليكود ريفيتال “تالي” جوتليف دعت قوات الجيش لاستخدام كلّ ما في جَعبتها قائلة في تغريدة لها في 9/10/2023: “حان الوقت لصاروخ يوم القيامة، إطلاق صواريخ قوية بلا حدود، لا تسوّي حيًّا واحدًا بالأرض، بل تسحق غزّة كلّها وتسوّيها بالأرض بلا رحمة، بلا رحمة. “
في 12/10/2023 أصدرَ وزير الصحة موشيه أربيل قرارًا منع بموجِبه علاجَ جرحى الفصائل الفلسطينية في المستشفيات الحكومية الإسرائيلية.
ولتصريحات قادة الاحتلال مساران؛ المسار الأوّل هو المسار التنفيذي المباشر: (وزير، قائد جيش، رئيس بلدية)، والمسار الثاني هو المسار التأثيري: (التأثير بالمستوطنين وبالجنود الميدانيين). ما نودّ قوله: إن تصريحات القادة الإسرائيليين تأتي في مستوى التصريحات الأشد خطورة، وتتوفر فيها كل معايير التحريض الجنائي.
قادة دول غربية: دافعوا عن أنفسكم اقتلوا الإرهابيين
خلال زيارات تضامنية مع الاحتلال، عبّر أكثر من مسؤول غربي عن حقّ إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها في مواجهة إرهاب حماس “الداعشية” حسَب تصنيفهم. وفهمت إسرائيل من هذا الدعم أنَّها مطلَقة اليدَين في فعل ما تشاء، فقصفت الأعيان المدنية، ومنها المستشفيات بطريقة عشوائية، وقتلت آلاف المدنيين. وتبنّت الدول الغربية رواية الاحتلال في قصف المستشفى المعمداني، وحمّلت فصائل المقاومة المسؤولية، ثم وعلى خجل شديد “تمنّت” على إسرائيل احترام قواعد القانون الدولي الإنساني.
نناقش في هذه الجزئية تصريحات قادة الدول الغربية التي اعتبرتها بعض الأوساط الحقوقية تحريضًا على القتل والانتقام وسفك الدم الفلسطينيّ، تحت حُجّة الدفاع عن النّفس. ولقد شكّل تصريح الرئيس بايدن- بأنّ المقاومة الفلسطينية تقطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، (ثم تراجع عنه بعدما ثبَت عدم صحته)- دعوة واضحة لآلة القتل الإسرائيلية لحصد أرواح الأبرياء، خصوصًا الأطفال منهم، تحت حُجّة الدفاع عن النفس. صحيح أنَّ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة أعطت الدول حقَّ الدفاع عن النفس، لكنها في نفس الوقت وضعت شروطًا لذلك، أهمُّها عدم انتهاك قواعد القانون الدوليّ الإنساني. ويبدو من الواقع أن انتهاك قواعد الحرب أصبح هو القاعدة، وأنّ حماية المدنيين من القتل أصبحت هي الاستثناء. ومن خلال الإحصاءات المتوفرة حتى الآن، فإنّ عدد الشهداء من النساء والأطفال يتجاوز الـ 60% من إجمالي عدد القتلى المدنيين.
هل من سبيل لتجريم خطابات التحريض على قتل الفلسطينيين؟
لم يكن موقفُ المجتمع الدولي موفّقًا في التصدّي لخطاب الكراهية على المستوى الجنائي، بل شهد تناقضًا واضحًا، عكسته النظم الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية. ففيما جرّمت محكمتا يوغوسلافيا السابقة ورواندا خطاب الكراهية، وعدّته جريمة مستقلة كافية لتحريك المسؤولية الجنائية الفردية، نرى أنَّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية استبعدَ خطاب الكراهية وكل صور التحريض منه، ما لم يكن خطاب التحريض بجريمة وردت على سبيل الحصر في المادة نفسها.
إنَّ عدم تجريم خطاب الكراهية والتحريض على القتل (دوليًا)، سيعني تشجيعًا على ارتكاب جرائم أخرى بحقّ الإنسانية، وهو ناقوس خطر سيدقّ في أي لحظة مُخلّفًا المزيدَ من الحروب القائمة على الكراهية. ورغم تدخل العوامل السياسيّة، وهي التي تحول دون تحقيق العدالة، فإنَّ ثمة خيارات ممكنة:
أولًا: طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن التحريض على الكراهية
يمكن لمجموعة من الدول أن تطلبَ من الجمعية العامة للأمم المتحدة استصدار فتوى من محكمة العدل الدولية بشأن مدى التزام دولة معينة بتعهداتها في مجال احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حظر التحريض الكراهية والقتل.
ويعتبر هذا الطلب نوعًا من الضغط على الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان المتعلقة بحظر التحريض على الكراهية، وذلك لأنّ رأي المحكمة، وإن كان غير ملزم- كالأحكام التي تصدرها في المنازعات- إلا أنه يتمتع بصفة شرعية، ولا يمكن لأي دولة أن تغفله أو تقلل من شأنه.
ثانيًا: المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
يمكن أن تلعب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) دورًا مهمًا في تجريم خطاب الكراهية في الدول الأعضاء في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان(ECHR) . لقد أكدت المحكمة في العديد من قراراتها أنّ خطاب الكراهية يمكن أن يشكل انتهاكًا للمادة 10 من الاتفاقية، والتي تضمن حرية التعبير. ولعلّ تصريحات قادة الاحتلال قد تسبّبت بمقتل فلسطينيين يحملون جنسيات أوروبية، عندها يمكن التحرك باتجاه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ويسري الأمر نفسه مع المحاكم الأميركيّة.
ثالثًا: الإدانات العلنية لخطاب الكراهية والدعوة للقتل
في غياب محاكم دولية مختصة لملاحقة جرائم الكراهية، فإنه يجب تفعيل الطرق والوسائل غير الجنائية. ويمكن أن تساعد إدانة خطاب الكراهية علانية من قبل سياسيين وإعلاميين ومؤثرين في الحدّ من هذا الخطاب.
رابعًا: إنشاء آليات دولية قوية لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض على القتل
يمكن أن تشمل هذه الآليات إنشاء محكمة دولية خاصة لخطاب الكراهية، أو إنشاء آلية تابعة للأمم المتحدة لرصد ومتابعة خطاب الكراهية والتحريض على القتل.
وإذا ما قرَّر السيد كريم خان المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق جِدّي وعاجل في جرائم الاحتلال خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، فإنّ تصريحات قادة الاحتلال ستصبح مادة دسمة ومفيدة يمكن الاستفادة منها كدليل ملموس لا يقبل الشكّ.