على وقع الإبادة الجماعية والدمار الهائل بفعل العدوان الصهيوني على قطاع غزة برًّا وبحرًا وجوًّا، وعلى وقع عذابات الحصار ونسف البنى التحتية وقطع الطريق على أية إمدادات إنسانية لإغاثة المواطنين، وعلى وقع مقاومة شرسة فاجأت العدو والصديق وتخندقت في محرابها مواجهة الإجرام الصهيوني المدعوم أمريكيًّا وغربيًّا؛ إذ تؤلمه إيلامًا غير مسبوق، وتكبده خسائر لم تقع في صفوفه على مدار التاريخ.. هكذا مرَّت 100 يوم من معركة طوفان الأقصى.
“معركة القرن”، كما وصفها مراقبون، كانت درامية في بدايتها ومراحلها المختلفة، ولم يخفت صوتها رغم طول المدة فكانت ولا تزال الأعلى صوتًا بين أحداث العالم، فكيف بدأت هذه الحرب وما هي أهم المراحل التي مرّت بها وإلام وصلت في يومها المائة على اندلاع شرارتها؟!.
“طوفان الأقصى”
البداية كانت من كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، ومعها كتائب المقاومة الفلسطينية، في صباح السابع من أكتوبر الماضي؛ حيث شنت هجومًا مباغتًا على مستوطنات غلاف غزة، موقعة خسائر فادحة في صفوف الاحتلال بين قتلى وجرحى وأسرى.
وقد أعلن قائد “القسام” محمد الضيف، النفير العام تماشيًا مع المعركة التي أطلقوا عليها “طوفان الأقصى”، ردًّا على الانتهاكات التي مارسها العدو الصهيوني على مدى الشهور التي سبقت المعركة؛ حيث الاعتداء على المسجد الأقصى المبارك والمرابطين فيه، ومحاولات تدنيسه المتكررة لرحابه.
حرب شاملة
على إثر ذلك أعلن جيش الاحتلال بدء هجوم على قطاع غزة من كافة المحاور برًّا وبحرًا وجوًّا، وأكد أنه يستهدف من هذا الهجوم القضاء الكامل على حركة حماس عسكريًّا وسياسيًّا، واستعادة الأسرى لدى المقاومة، وإيجاد وضعٍ أمني وسياسي جديد في قطاع غزة.
وبالتزامن مع ذلك انتفضت حكومات الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم دول أوروبا، للتضامن مع الاحتلال الصهيوني، ومعلنة دعمها الكامل له ماديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، وتصدّر البيت الأبيض واجهة الموقف الغربي لدعم الإبادة الكاملة للمقاومة في غزة، دون قيود أو التزامات بأية مواثيق دولية تحمي المدنيين أو البنى التحتية.
وشنت طائرات الاحتلال غارات جوية على البنايات والمساجد والمدارس والمستشفيات، محدثة دمارًا هائلاً في كافة مناحي الحياة في قطاع غزة، والتي تعطلت بشكل كامل بعد انقطاع الوقود والكهرباء والمياه وشبكات الإنترنت، فيما كانت المجازر تقتل وتصيب المئات في كل يوم.
استمرت الحرب على هذه الوتيرة بين هجوم صهيوني على المدنيين وإحداث مجازر جماعية يقع معظمم ضحاياها في صفوف النساء والأطفال، وبين ردٍّ قاسٍ من المقاومة الفلسطينية بصواريخها محلية الصنع، جعلت العشرات من المستوطنات والبلدات المحتلة إسرائيليا، تعاني من النزوح والهجرة العكسية خارج البلاد.
الحرب البرية
وبعد أسابيع من بدء الحرب، دخل العدو إلى قطاع غزة بريًّا عبر دباباته وجرافاته وحاملات جنوده، مصحوبًا بغطاء جويٍّ مكثف، وسط حصار للقطاع من جميع معابره، ومنعٍ لدخول المساعدات الغذائية والطبية بهدف خنق القطاع والإطباق على المقاومة.
لم تقف المقاومة مكتوفة الأيدي إزاء الهجوم النازي لجيش الاحتلال وداعميه، وفاجأت العدو مرة أخرى حين واجهت آلياته المجنزرة بأسلحة خفيفة محلية الصنع، ومقاومين أشداء، فدمرت المئات من دباباته وجرافاته وناقلات جنده، وأوقعت في صفوف جنوده الآلالف بين قتيل وجريح، فيما لم يجد العدو بُدًّا من أن يخفي هذه الهزائم المتعاقبة عن الرأي العام، ويعلن بيانات لا تقترب من الحقائق في شيء.
هدنة مؤقتة
وبعد زهاء 50 يومًا من اندلاع المعارك، أعلنت كل من دولتي قطر ومصر التوصل لاتفاق يقضي بالوصول إلى هدنة مؤقتة لتبادل الأسرى المدنيين من الطرفين، واستطاعت المقاومة فرض شروطها في هذا الاتفاق، وظهرت أمام الرأي العام الصهيوني والعالمي بصورة المنتصر رغم كل الدمار التي أحدثه جيش الاحتلال على قطاع غزة؛ حيث بادلت بعض ما لديها من الأسرى المدنيين والأجانب، بما يساوي ضعفي عددهم من الأسرى النساء والأطفال الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
لم تستمر الهدنة إلا بضعة أيام حتى استأنف الاحتلال عدوانه مرة أخرى معلنًا دخول الحرب مرحلة جديدة، بالتوغل بريًّا إلى جنوب قطاع غزة؛ إلا أنه فوجئ بأن ما لقيه من مقاومة شرسة في الشمال لم يكن كل شيء، بل كانت خسائره أكثر وأشد في معارك الجنوب، واستطاعت المقاومة توثيق معاركها وبثها للرأي العام، مظهرة ضعف وهشاشة جنود وآليات الاحتلال، في مقابل قوة شجاعة رجال المقاومة.
تراجع غربي
سياسيًّا بدأت الأصوات الغربية تتحول بشكل ملحوظ من الدعم المطلق لكل ما يقوم به الاحتلال من هجوم نازي، إلى المطالبة بتجنيب المدنيين عمليات القتل والدمار، واستمرت لغة الغرب في التراجع شيئًا فشيئًا بسبب الإخفاقات المتكررة لجيش الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه، بالإضافة إلى انكشاف الوجه القبيح لدى الإدارة الأمريكية أمام الرأي العام؛ خاصة بعد استخدامها حق الفيتو برفض إقرار مجلس الأمن بوقف الحرب الصهيونية على غزة.
زاد الأمر تعقيدًا في الحسابات الغربية، الانتفاضة العالمية خاصة في دول الغرب من قبل النشطاء والرافضين للسياسات الغربية الداعمة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة على الفلسطينيين، وخرجت المظاهرات بالملايين تجوب المدن وتعلن أن هذه السياسة وذلك العدوان لا يمثل الشعوب؛ حيث كان آخر هذه الانتفاضات، المظاهرات التي خرجت أمس السبت في 120 مدينة ضمن 45 دولة في 6 قارات من العالم يعلنون ضوررة وقف الحرب.
محاكمة الاحتلال
وسابقًا أعلنت دولة جنوب أفريقيا بالتقدم بشكوى ضد الاحتلال الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ حيث بدأت جلسات المحاكمة في نهاية الأسبوع الماضي، وأحدثت صدى واسعًا بالمرافعات القانونية المثبتة بالأدلة من الفريق القانوني المتقدم بالدعوى، فيما لم يستطع دفاع الاحتلال مجابهة هذه الأدلة إلا بمزيد من الدعاية الكاذبة.
ومع وصول المعركة يومها المائة لا يزال كل طرف يعض على أصبع خصمه، رغم التفاوت الكبير بين قوة وإمكانات وعدد الفريقين، إلا أن صاحب الأرض لا يزال يتمسك بأرضه (وإن دمرت)، ويصر على بقاء ما تبقى من حياته بعد فقد أكثر من 23 ألف شهيد وإصابة ما يزيد عن 60 ألفًا، ونزوح قرابة مليون ونصف مواطن من بيوتهم ومدنهم وقراهم.
مائة يوم من الحرب المدمرة، لم يتحقق للعدو فيها أيُّ من أهدافه المعلنة؛ حيث لم يحرر أسيرًا، ولم يقض على المقاومة، ولم يستطع إقامة واقع أمني جديد في غزة، فيما لم يعلن الفلسطينيون يأسهم من الانتصار على عدوهم، وقد أظهرت المقاومة أن للأرض المنهوبة درعًا وسيفًا، وأن المسجد الأقصى الرازح تحت الاحتلال منذ 75 عامًا، قد آن له أن يذيق العدو بعضًا من بأسه وأن يشهد العالم كله كيف يكون “طوفان الأقصى”.