من القسَّام إلى القسَّام

خمس صفات اجتمعت في الشيخ الشهيد عز الدين عبد القادر القسام (1882-1935) قلما اجتمعت في شخصٍ واحد، فقد كان رحمه الله عالما وداعية وقائدا ومجاهدا ورجل تنظيم من الطراز الأول. وهي صفات أَهَّلته لأن يكون أحد أكبر رموز المقاومة والجهاد في تاريخ فلسطين، بل وفي العالم العربي والإسلامي، وأن يطلق عليه معاصروه من أبناء فلسطين “أبو الوطنية”. ولهذا أطلقت حركة حماس اسمه على جناحها العسكري سنة 1990، تعبيرا عن المواصفات التي حملها، واستمرارا لرؤيته الإسلامية ومسيرته.

كان القسام رحمه الله (الذي تمر هذه الأيام ذكرى استشهاده الثامنة والثمانون) ابن بلدة جبلة في شمال غرب سوريا، عالما تلقى تعليمه في الأزهر الشريف، وعُرف بتقواه وصلاحه، وقد عُدَّ من العلماء المجتهدين. وجمع بين صحّة العقيدة وبين عُمق التربية الإيمانية “الصوفية” البعيدة عن الغُلو والانحراف، وبين استيعاب فقه الواقع والأولويات والنوازل. وكان يرى في الإسلام دينا شاملا لكافة مناحي الحياة، وأنه أساس توحيد الأمة، وأساس نهضتها وعزتها، والأقدر على استنهاض طاقاتها وإمكاناتها.

وكان من فقهه رحمه الله أنه يرى أن أولوية الجهاد مقدمة على كل الأمور، في الظرف الذي يعيشه الشعب تحت الاحتلال؛ ولذلك رأى أن إعداد الشعب للجهاد وتسليحه أفضل وأحق من تشييد المساجد والمباني وتزيينها. فقاوم بشدة إنفاق أموال الأوقاف في تزيين المساجد، حتى لو كان المسجد المزيّن هو المسجد الأقصى نفسه؛ وأن هذه الأموال يمكن بها تسليح آلاف المجاهدين. ونُقل عنه رحمه الله قوله: “يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم، كيف ستنفعكم الزينة على الجدران”؟! بل إن القسام دعا مرة إلى تأجيل الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة، لأن الجهاد أولى من أداء الحج في ذلك الوقت.

من ناحية ثانية، اتصف القسام بأنه داعية من الطراز الأول، فقد اجتمع إلى جانب كونه عالما يُقتدى به، جرأته وشجاعته في الحق، وشخصيته الاجتماعية الشعبية الجذابة المحبوبة، وسهولة العِشْرة. وكان محدثا لبقا، وخطيبا بارعا، قوي الحجة، نشيطا متحركا متفاعلا مع هموم الناس، متصلا بسائر طبقات الشعب من متدينين وغير متدينين، حتى بالمنحرفين، لدعوتهم وإصلاحهم. وعُرف بتواضعه وزهده في مأكله وملبسه، وغلب على بيته طابع بيوت الفقراء.

وكان مسجده يضيق بالمصلين، على اتساعه، فيصلون في الشارع، وأصبح مسجده أشهر مسجد في شمال فلسطين.

وحتى يمارس الدعوة ويحتك بالناس (بينما كان يستخلص أفضل العناصر لتنظيمه الجهادي)، فقد عمل إلى جانب عمله إماما وواعظا، مأذونا شرعيا، وعمل في التدريس، وافتتح فصولا لمحو الأمية للكبار، وشارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وترأس فرع حيفا.

وتحت غطاء هذه الأعمال كان يتنقل بين أحياء حيفا (حيث استقر منذ خريف 1920) والمدن والقرى ويتواصل مع المصلّين، ومع الفئات الشبابية، كما يتواصل مع العمال (خصوصا عمال السكك الحديدية وعمال ميناء حيفا)، والفلاحين في قرى شمال فلسطين، ويحضر الأعراس وجلسات العزاء والتجمعات المختلفة، واعظا ومربيا ومُحرّضا على الجهاد “ومجنّداّ” للكوادر.

أما شخصيته القيادية، فقد كانت صفة بارزة فيه، من ناحية ثالثة، بما يملك من رؤية واضحة واستعدادات عالية للتضحية، وقدرة كبيرة على المبادرة، وجاذبية شخصية (كاريزما) عالية، وقدرة على الإلهام جعلته محطّ حب الناس وثقتهم.

ولذلك لم يكن غريبا أن يتمكن سنة 1911 من أن يجند كتيبة من 250 متطوعا للجهاد في ليبيا ضد الاحتلال الإيطالي، وإن لم يتمكنوا في نهاية الأمر من الوصول إلى هناك. وعندما احتل الفرنسيون اللاذقية في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1918 قاد الجهاد في المنطقة إلى جانب عمر البيطار. وقام القسام ببيع بيته، وهو كل ما يملك، واشترى 24 بندقية لمتابعة الجهاد. وإلى جانب دوره القيادي المعلن في فلسطين في جمعية الشبان المسلمين، فإن قيادته لتنظيم الجهادية الذي أنشأه، كان أحد أعظم المؤشرات على مؤهلاته القيادية.

ومن ناحية رابعة، فقد تميّز القسام بقدراته وإمكاناته التنظيمية العالية، فقد كان من أبرز رواد العمل الإسلامي الحركي في التاريخ الحديث في فلسطين وعالمنا الإسلامي. حتى إن أحد القياديين الذين عاصروه (إميل الغوري) وصف تنظيمه بأنه “أخطر منظمة سرية، وأعظم حركة فدائية عرفها تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، بل تاريخ الجهاد العربي الحديث”.

نجح القسام في أن ينشئ “المنظمة الجهادية”، التي غلب عليها بعد استشهاده اسم جماعة القسام أو القساميين. وهي تنظيم جهادي سري، يستمد فهمه ومنهجه من الإسلام، ويَعدّ الجهاد طريقا وحيدا لإنقاذ فلسطين. وكان لا يقبل في تنظيمه إلا من كان “مؤمنا مستعدا أن يموت في سبيل بلاده”، من أهل الدّين والعقيدة الصحيحة.

وتمكن من العمل السري الفعال على مدى عشر سنوات (1925–1935) دون أن ينكشف عمله لأقوى أجهزة المخابرات العالمية (المخابرات البريطانية)، وأن يضم تنظيمه قُبيل إطلاق الثورة في 1935 نحو 200 كادر؛ أكثرهم يشرف على حلقات توجيهية من الأنصار يبلغ عددهم نحو 800 نصير. وقد أنشأ تنظيم القسام خمس وحدات متخصصة، تضمنت وحدة لشراء السلاح، ووحدة للتدريب، ووحدة للتجسس على الإنجليز والصهاينة، ورابعة للدعاية للثورة، وخامسة للاتصالات السياسية.

وكان من منهج التنظيم أن يتدرب جميع الأعضاء على السلاح، وأن يتدبر كلّ فرد تجهيز نفسه بالسلاح، بالرغم من أنهم كانوا يكدون للحصول على لقمة العيش، فقد منع عديدون “أنفسهم الخبز من أجل ابتياع السلاح” كما يشير أحد المصادر. وكانت الحركة تعتمد ماليا بشكل أساس على نفسها، فكان أعضاؤها يدفعون اشتراكات ثابتة، أما إذا ارتفع مستوى العضو التنظيمي، فيصبح التزامه أكبر، إلى أن يدفع كل ما يزيد عن حاجاته الضرورية. وعندما تَقرّر إعلان الجهاد باع القسام بيته الوحيد في حيفا، وباع عدد من أصحابه حلي زوجاتهم وبعض أثاث بيوتهم ليوفروا الرصاص والبنادق. أما الشعار الذي اجتمع عليه التنظيم فهو “هذا جهاد.. نصر أو استشهاد”، وهو الشعار الذي تتبناه كتائب الشهيد القسام التابعة لحماس.

وقد أعطى هذا العمل التنظيمي الفعال ثماره بعد استشهاد القسام، إذ إن تنظيم القسام وقياداته هم الذين فجروا الثورة الكبرى في فلسطين في مرحلتها الأولى 1936 وفي مرحلتها الثانية 1937-1939، وهم الذين قادوا الجهاد في شمال فلسطين وأجزاء واسعة من وسطها، حيث تركزت قوة الثورة وعنفوانها.

أما الصفة الخامسة “المجاهد” فهي تلك الروح المُنغرسة الممتزجة مع ما قبلها من صفات، وهي أصيلة وأساسية في شخصيته. فالقسام عاش مسكونا بالجهاد وبتحرير أرض الإسلام من “المستعمرين والكفار”، من تجهيزه لكتيبة المتطوعين للجهاد في ليبيا، إلى مقاومة الاستعمار الفرنسي، إلى مقاومة الإنجليز والصهاينة. وكان هذا مصحوبا بإنزال فقه الجهاد على الواقع، وتهيئة الأمة للجهاد، وبناء الكفاءات والكوادر المجاهدة. وتّوج القسام ذلك كله بأن يتقدم صفوف إخوانه وأن يستشهد في أول معركة يخوضها تنظيمه بعد إعلان الثورة في أحراش يعبد في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935.

ولعل أشبه العلماء والدعاة بصفات القسام هو الشيخ الشهيد حسن البنا رحمه الله؛ وهو ما قد يستدعي في مقام آخر عمل مقارنة موضوعية بينهما. ولذلك، لم يكن غريبا أن تجمع حماس وهي نتاج الإخوان المسلمين وامتداد لهم، بين مدرسة البنا وبين التجربة الملهمة لعز الدين القسام.

حاولنا في هذه العجالة، استذكار أبرز معالم شخصية القسام وتجربته، في ذكرى استشهاده. وهي ذكرى حاضرة بقوة هذه الأيام في أجواء معركة طوفان الأقصى. وهكذا فعلى مدى المائة عام الماضية سار العمل المقاوم “من قسّامٍ إلى قسّامٍ”.

 

المحتوى ذو الصلة