من الذاكرة الى الديكور : بقلم بيان سالم

بين زفة الماضي وإيقاع الحاضر

في الأعراس الفلسطينية، يتلألأ التراث بكل ألوانه وتفاصيله، فنرتدي الأثواب المطرزة، ونرقص على أنغام الدبكة، ونُغني بـالعتابا والزجل، وكأننا نستحضر قرونًا من الذاكرة الشعبية. ولكن، ما إن ينتهي العرس، حتى تختفي هذه المظاهر، وكأنها كانت ديكورًا مؤقتًا لا علاقة له بحياتنا اليومية. فهل التراث مجرّد زينة نحتفي بها في المناسبات؟ أم أنه مرآة لهويتنا يجب أن تعيش معنا في تفاصيل يومنا؟

الأعراس متحف مؤقت للتراث

في لحظات الفرح الجماعي، يعود التراث إلى الواجهة، لكنه يعود كاستعراض لا كممارسة. العروس ترتدي الثوب لمرة واحدة، والفرقة الشعبية تؤدي عرضها في ربع ساعة ثم تنتهي المهمة. هذه المظاهر، رغم جمالها، لا تشير بالضرورة إلى ارتباط حي بالتراث، بل إلى استخدامه كديكور رمزي للمناسبة

لماذا يغيب التراث عن يومياتنا؟ 

يعود غياب التراث عن تفاصيل حياتنا اليومية إلى مجموعة من العوامل المتشابكة. فقد ساهمت الحداثة والعولمة في إدخال أنماط جديدة من الحياة، جعلت الكثير من العادات والتقاليد تبدو قديمة أو غير عملية في نظر البعض، كما أن ضعف التعليم الثقافي في المدارس، حيث يُعامل التراث كمعلومة ثانوية لا كمكوّن حي من الهوية، جعل الأجيال الجديدة أقل ارتباطًا به. إلى جانب ذلك، تحديات الحياة اليومية، كواقع الاحتلال والبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، تدفع العديد من الناس إلى الانشغال بتأمين احتياجاتهم الأساسية، وأخيرًا، هناك تحوّل واضح في الذوق العام، إذ باتت الموسيقى والموضة والأفكار الغربية أكثر جذبًا للشباب من رموزهم التراثية، مما عمّق الفجوة بين الماضي والحاضر.

التراث كوسيلة مقاومة رمزية 

في السياق الفلسطيني، لا يقتصر التراث على كونه مظهرًا ثقافيًا فحسب، بل يحمل بعدًا نضاليًا أيضًا. فالثوب المطرز، والأغنية الشعبية، وحتى اللهجة المحلية، تشكّل أدوات مقاومة ثقافية تثبّت الهوية في وجه محاولات الطمس والتهويد. عندما نُدخل التراث في تفاصيل حياتنا اليومية، نحن لا نحافظ على الذاكرة فقط، بل نُمارس فعل صمود ثقافي. فكل مَظهر تراثي نستخدمه هو إعلان غير مباشر: “نحن هنا… وهذه أرضنا وتاريخنا.”

دور الإعلام والمدارس في إعادة التراث للحياة

حتى يعود التراث حيًا، لا بدّ من تغيير في المنظومة التعليمية والإعلامية. يجب أن يتحوّل التراث من فقرة في كتاب التاريخ إلى نشاط حي في الصف، ومن عنصر تزييني عابر في البرامج التلفزيونية إلى محتوى يومي تفاعلي يراه الناس في حياتهم. يمكن للمدارس أن تدمج الأهازيج في الطابور الصباحي، أو تنظم أيامًا شعبية بشكل دوري، ويمكن للإعلام أن ينتج محتوى معاصر يُظهر كيف يمكن ارتداء الثوب المطرز بطريقة عصرية أو دمج العتابا مع الموسيقى الحديثة، مما يربط الماضي بالحاضر ويجعل التراث جذابًا للأجيال الجديدة.

لنجعل التراث أسلوب حياة

إن اختصار التراث في المناسبات فقط، يشبه أن نحتفل بالوطن فقط يوم الاستقلال. التراث ليس ترفًا، بل هوية. وهو لا يُحفظ في المتاحف فقط، بل في الحديث اليومي، في الأغاني التي نغنيها، في الأكل الذي نطهوه، وفي القيم التي نعلّمها لأبنائنا. إن مسؤولية إحياء التراث لا تقع على جهة واحدة، بل علينا جميعًا… فإما أن نحمله معنا في الحياة، أو نراه يندثر في صور الأعراس.

مشاركات مماثلة