[[{“value”:”
أنت تقاوم، إذن أنت موجود، أو بعبارة أخرى مطابقة، ولو قليلاً: من الوجود إلى المقاومة. بين هذين الحدَّين علاقة تلازم ومشروعية، فليست المقاومة التي يبديها المُضطهَدُ إلّا تعبيراً بليغاً عن وجود راسخ، أي عن حقّ مُطلق بحكم الوجود.
وفي المقابل، قلّما تكون حروب الدولة عنواناً على أهليتها وعلى وجود جذور بشرية عميقة أو أساس راسخ لوجودها. يشهد التاريخ كثيراً بمآلات الكيانات الاستعمارية، ومنها بالخصوص دولة الأبارتهايد (التمييز العنصري) في جنوب أفريقيا سابقاً، وفي إسرائيل حالياً. فهاتان الدولتان تعبيران أقصيان عن حقيقة الاستعمار الاستيطاني، وعن منتهاه، أي عن حدود “طبيعته” المصطنعة والمُلفَّقة بحكم القوة؛ وكانت المقاومة الجزائرية قد بادرت باقتلاعه من أرضها.
تطلب المقاومة غايتها في ذاتها؛ مُجرَّد المقاومة هدف في حد ذاته. أمّا حرب “الدولة” على المقاومين، فتطلب غايتها خارج ذاتها؛ الحرب وسيلة بالأساس، ولا حرب من أجل الحرب. وإذا حصل أن انفلتت الحرب من منطقها هذا انقلبت على مُدبِّريها. الأمثلة التاريخية كثيرة. وربما بنيامين نتنياهو لم يعد ببعيد عن هذا المُنقلَب في الحرب.
منذ ترحيل يهود أوروبا الشرقية ويهود ألمانيا النازية إلى فلسطين (الترانسفير)، ومنذ زرع عصابات الهاغاناه الصهيونية المسلّحة حتّى قيام إسرائيل دولةً للحرب والاستيلاء والاستيطان والتوسّع والتهجير القسري والإبادات الجماعية المتلاحقة، والطريق إلى تحرير فلسطين تُعبِّدها تضحيات جموع المقاومين وتضحيات قادتهم الكبار، الذين كان ياسر عرفات من أوائلهم، ولن يكون إسماعيل هنيّة آخرهم.
صحيحٌ أنّ اغتيال هنيّة عملٌ رخيصٌ وجبانٌ بلجوئه إلى نقل مركز ثقل الصراع من ميدانه العسكري والشعبي إلى ميدان الإرهاب الانتقائي، الذي يَسْهل على أيّ تدبير تكنولوجي أبكم وأصم، وأيّ عميل أو مجنون أو متهوّر أن يُؤدِّيه، إذْ يكفي أن يساعده اختراقٌ أمني، وأن تساعده المصادفة لكي ينجح في تنفيذ الجريمة السياسية.
ولكن في المقابل، وهذا ما ينكره بعض “الخبراء” العرب، وتتجاهله وسائل إعلام عربية، بما فيها تلك التي تُساند المقاومة، للحكومة الإسرائيلية استراتيجيةٌ مراوغِةٌ لا تحتاج إعلان أهدافٍ عسكريةٍ من طبيعتها أن تكون أهدافاً مبيّتةً، فعبثاً ننتظر التصريح بالنيّات البعيدة، وهي جعل غزّة غير قابلةٍ للعيش، وتهجير سكّانها بالوسائل كلّها بداية بالفتك بالكتل البشرية، وباغتيال النخب العسكرية والسياسة.
لإسرائيل “يومها التالي”، وهو اجتثاث الجزء الأعظم من الشعب الفلسطيني، والإجهاز على قادته، وتهجير من أسعفه الحظُّ بالبقاء، حتّى لا تبقى إلا قلّةٌ قليلةٌ بلا هُويَّة فيمكن عزلها في “غيتوات”، وقسمتها بين أشباه سادة وعبيد فعليين، كلّهم في خدمة دولة القهر الصهيوني وقطعان مستوطنيها.
من هذا المنظور، السلطة الفلسطينية نموذج أوَّلي ومشوّه الخِلْقة لمشروع الاستعباد الذي تريده الصهيونية، تريده من هنا فصاعداً بلا اسم وبلا يافطة، وستؤول الفرق “الأمنية” في الضفة الغربية شيئاً فشيئاً إلى الانضواء داخل جهاز القمع الإسرائيلي، فيصيبها ما أصاب بعض دروز 1948.
أمّا مشروع الدولة الواحدة مُتعدِّدة القوميات، فغير ممكن ولم يعد مطروحاً، ومشروع الدولتين غير ممكن في الواقع، وزاد عليه قرارُ الكنيست برفضه القاطع له، ومشروع الأبارتهايد كان موجوداً قبل 7 أكتوبر (2023)، وهو سبب رئيس من الأسباب التي قادت إلى هذا الحدث الجليل، وإلى “طوفان الأقصى”.
لذا، لم يعد في وسع إسرائيل أن تستنسخ نظام التمييز العنصري منذ ذلك المنعطف، الذي ألقى بظلاله المعتمة على مستقبل الدولة الصهيونية، وردّها من جديد إلى سؤال الوجود والعدم. وتالياً، فهذه أبواب ثلاثة، أو بدائل ثلاثة، ستكون مُغلقة بإحكام في “اليوم التالي” الموهوم.
سؤال الوجود والعدم هو السؤال الوحيد المشترك بين طرفَي الصراع. إنّه الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً، والذي إذا دخل منه طرف أُخرج منه الطرف الآخر بالضرورة. وفي طيّ السؤال، يبقى الفارق القيمي بين الذاتَين هائلاً؛ الحقُّ والعدلُ من جهة الفلسطينيين، والقوةُ والظلمُ من جهة الإسرائيليين. هذا الفارق القيمي هو الحامل المُوجِّه للسؤال؛ وهو بالتحديد ما أصبح يفهمه ويعيه الضمير الإنساني الذي يتوق إلى الانعتاق في جميع أنحاء العالم؛ غزّة ومن ورائها القضية الفلسطينية هي المحكُّ الأكبر للحقّ والقانون والعدل على الصعيد الدولي.
أما إسرائيل، فلا ترى في الولايات المتّحدة حليفاً سياسياً وعسكرياً قويّاً فحسب، بل أيضاً مثالاً تاريخياً وإنجيلياً تحتذيه في مجال الإبادة الجماعية والاستيطان والاسترقاق (استعباد الزنوج الأفارقة)، وفي التعذيب البدني والنفسي (سجناء غوانتنامو، وأسرى أبو غريب).
لا معنى إذاً في نظر إسرائيل لقوانين الحرب ما دام القصد إبادة المدنيين وتهجيرهم واصطناعهم، ما يعني الخروج عن قوانين الحرب وعن موضوعها وعن حدودها، وهي كسر إرادة العدو بالأساس. ولذا، يكون من اللازم في نظر قادة إسرائيل أن يحصل نفي الشعب الفلسطيني قبل كسر إرادة قواه السياسية. ضرب الحاضنة المدنية أولاً، وضرب قوة “حماس” ثانياً. هذا هو الهدف والوسيلة في وقت واحد. وجميع أطياف دولة إسرائيل ضالعةٌ في هذا النهج منذ عبّر عنه ديفيد بن غوريون أحسن تعبير عندما قال، ما معناه، إنّه لو كان عربياً لقاتل إسرائيل بالوسائل كلّها حتّى النهاية، مستنتجاً من ذلك أنّ على الحركة الصهيونية ألّا تترك مجالاً للفلسطينيين حتّى يعيشوا بجوارها.
وهذا قولٌ متَّسِقٌ مع طبيعة الاستعمار الاستيطاني، فكل مستوطن، أكان ليبرالياً أم اشتراكياً أم فاشياً، علمانياً أم متديناً، أقيل عنه معتدل أم متطرّف، ويغتصب أرض غيره ويستوطن فيها، ويقيم فيها دولةً عسكريةً، لا مفرّ له من أن يُسلِّم بالنتائج الضرورية الدامغة، وهي أن لا مجال للعيش معاً. ومن قَبْلُ، كانت العصابات الصهيونية قد لجأت إلى استخدام العنف لإجبار اليهود أنفسهم على الرحيل إلى فلسطين، ووصل بها الأمر إلى تفجير محالّهم العمومية في المدن الأوروبية، وسرعان ما تحوّل “المُرحَّلون” اليهود عصاباتٍ مسلَّحةٍ تُنكّل بالفلسطينيين، وتجبرهم بقوة السلاح على الهجرة واللجوء.
ولا يفوتنا هنا هانس يوناس، فيلسوف البيئة، وصاحب كتاب “مبدأ المسؤولية”، الذي شارك منذ 1935 في عصابات الهاغاناه، كي نفهم فهماً أفضلَ معنى الاعتدال، والتعقّل، وأخلاق المسؤولية، والمصير الإنساني المشترك أمام الكارثة، عندما تأتي هذه الكلمات في سياق خطابي مُحدَّد، وبلسان متكلّم مُحدَّد يده على زناد البندقية (!) ولكن، وللحقيقة، عبّر يوناس عن بعض الندم على سلوكه العسكرتاري، حينما لم يعد ينفع ندم. وترك إسرائيل.
على ذلك الأساس الصلب، ينبني الميثاق الصهيوني. أمّا الباقي، كالاعتدال والتطرّف، فيدخل في باب التباينات المزاجية بين العناصر الصهيونية الواحدة، لا غير. وهكذا، ليس الكلام عن “يمين متطرّف”، في أحسن الحالات، سوى خطابة سياسية، وليس في أسوأها سوى تنازل للدولة الصهيونية تحت عنوان التمييز بين المُعتدل والمتطرّف، وبين العاقل والمجنون.
لتلك التباينات وظيفة داخلية، فلا تهم العرب المقاومين إلا من باب السجال السياسي أو الدعائي عند مخاطبة “الحساسية” الغربية، وأصحاب “الأنفس الناعمة”. أمّا في واقع الأمر، فليس نتنياهو مجنوناً، بل العكس تماماً. إنّه التعبير الصريح والفجّ عن المبطّن الإسرائيلي العام. ولذا فهو يواصل منطق السياسة الصهيونية الصلب الذي كان بن غوريون قد وضع مبادئه، لإدراكه ما تفترضه الطبيعةُ اللّاسويّةُ لدولة إسرائيل من عنف وتوحّش وغطرسة أيديولوجية، ومروق عن القانون الدولي. من هذه الزاوية يُفهم لِمَ وكيف مزَّق مندوب إسرائيل ميثاق الأمم المتّحدة، وهي الهيئة التي أوجدت إسرائيل قانوناً بالظلم والبهتان تحت إمرة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
وهكذا، إمّا فلسطين وإما إسرائيل منظوراً إليهما بمقياس حقب التاريخ الكُبرى. لا وسط بينهما ولا خيارَ واقعياً آخر. وحدها، إذن، هزيمة الجيش الإسرائيلي تفتح الباب أمام الممكنات السلمية والديمقراطية. عندئذ من المأمول أن تعيد المدنية العربية والروح الفلسطينية إلى اليهود القاطنين في فلسطين ما فقدوه من قيم، منذ دجّنتهم دولة الجيش الباتولوجية فأصابهم منها داء عُضال لا شفاء لهم منه إلا بهزيمتها. هذه الدولة هي التي أنتجت نتنياهو، وليس نتنياهو هو من أنتج الدولة. ونتنياهو لا يزيد في شيء على مناحيم بيغن ولا على آرييل شارون، اللهم إلا باللغة الوقحة وبالسفسطة.
وما يطلبه الديمقراطيون في البيت الأبيض من نتنياهو مزيدٌ من المداهنة الدبلوماسية، ومن النفاق السياسي، فيترك لهم مجالاً أوسعَ للحركة، لكي يقبضوا على العصا لدعم إسرائيل من جهة، وأن يُقدِّموا الجزرة للعرب للتغطية على التطبيع من أخرى. لقد وضعت إسرائيل أميركا أمام أكبر امتحان منذ الحرب العالمية الثانية، فالمنطق الإمبراطوري يملي على أميركا ألّا تترك أحدَ حلفائها الكبار لمصيره عند الشدّة، وإلا انفرط عقد الحلفاء أجمعين، وفقدوا الثقة فيها وفي بأسها وهيبتها.
ومن ناحة أخرى، تحاول أميركا تربيع الدائرة حتّى تظهر بمظهر الطرف الثالث الحَكَم أو القيصر الراعي للكلّ. وأدلّ مثال على ذلك اعتراضها على “توسيع الحرب” في وقتٍ تزيد هي وإسرائيل في توسيعها، سواء على صعيد جغرافيا غزّة والضفّة الغربية أو خارجها، لتطاول مواقع شرق أوسطية أخرى. وفي واقع الأمر، تريد أميركا أن تكون الحرب على مقاسها ومقاس حليفتها المحمية كي تتمكّن من تحييد القوى الداعمة لفلسطين، وتستفرد بغزّة وبالفصائل الفلسطينية المسلَّحة.
لا خلاف بين أميركا وإسرائيل في الجوهر إلا من جهة المدخل إليه، فإسرائيل تختزل وضع العالم كلّه في جعبتها (حكاية اليهودي القديمة مع العالم)، وأميركا تراعي العالم باللزوم، فتنظر إلى إسرائيل من خلال عدسة العالم وموقعها الاستراتيجي منه (حكاية الإمبراطورية مع مقاطعاتها من ألمانيا إلى إسرائيل مروراً بالمطبّعين العرب). تُقدّر أميركا وظيفة إسرائيل في رقعة العالم، وإسرائيل تُقدّر وظيفة العالم في رقعة أميركا. وهذا ملتقى التشابه والتباين بين العالمي والإقليمي المُندمجَين في دائرة التكامل الإمبراطوري بين الأكبر والأصغر.
نرى كيف أنّ منطق الهيمنة الإمبراطورية ينطوي على تلازم وثيق بين أميركا، أو “روما الجديدة” كما ينعتها بعضهم، وواحدة من أهم قواعدها أو مقاطعاتها في الشرق الأوسط، وهي إسرائيل. أيُّ انكسار يصيب إحداهما يصيب الأخرى. ولن تنكسر شوكة الولايات المتّحدة، مثلها مثل روما القديمة، إلا بتفكّك يحصل في بنائها من الداخل، وتمهد له ارتجاجات داخلية (مثلما فعل انتشار المسيحية في روما القديمة)، وتسنده المقاومة الديمغرافية من الخارج (شعوب البرابرة الأشداء). وهو ما بدأ يحصل اليوم لروما الجديدة بفضل مقاومة الجنوب العالمي، ولو قليلاً. هذا ما يعطي معنىً محلّياً وإقليمياً وعالمياً للمقاومة الفلسطينية، التي تضع الإمبراطورية الأميركية – الغربية على المحكّ، وتومئ إلى أزمتها وإمكان تفكُّكها.
وختاماً، وإذا جاز استخدامُ لغةٍ كلاسيكيةٍ، فإنّ الوضع الراهن يحبل بشروط موضوعية وذاتية لم تتوافر في السابق قط، وربّما لن تتوافّر أبداً في المستقبل، باعتبار أنّ الصراعَ الدائر اليوم مسألةُ وجودٍ وعدم، كما ذُكِرَ أعلاه، وهي شروط تجعل الانتصار على إسرائيل ممكناً جداً من غير أن يكون قدراً مقضياً، فالهزيمة ممكنة أيضاً. وذلك لأنّ النصر لن يكتمل، ولن يتحقق، إلا بوحدة الكلمة الفلسطينية، باعتبار أن أحابيل اللعبة السياسية أكثر تعقيداً من أحابيل الميدان العسكري.
وما تربحه صفوف المقاومة عُرضة للالتفاف عليه من قبل الصفوف “القريبة” رسمية كانت أو غير رسمية، محلّية كانت أو إقليمية أو دولية. ومن شأن وحدة الكلمة الفلسطينية أن تسدّ فجوات التطبيع والخيانة والاستسلام الكبيرة، وتجمع حولها كلمة الشعوب العربية المكلومة، التي إذا لم تتظاهر في الساحات والشوارع بالمساندة، فلأنّها تعتبر قضية فلسطين قضيتها في الصميم فلا ترضى بمُجرَّد المساندة البلاغية.
وما يزيد في إعاقة الشعوب العربية عن نصرة غزّة هو ما تنشره الدعايات العربية الرسمية حول ساحات المقاومة وحول محورها ومركزها، تشويهات تقوم على اختلال بين المقال والمقام. لن نحكم حكماً صائباً في محور المقاومة إلا باعتباره تكافلاً حيوياً متحركاً تقتضيه طبيعة الكفاح التحريري في وضع مُحدَّد، وفي زمن مُحدَّد، وبفعل قوى مُحدَّدة.
والحركة الدائبة تمسّ طبيعة المقاومة وأشكالها وقواها على مرّ السنين. أليس الأمر كذلك في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها؟… ولذا، فإننا نعيش اليوم وضعاً حرجاً للغاية قد لا يدوم، وبإزاء نقطة رجحان فارقة، تلك التي تسميها ثقافتنا بالقشة التي تقصم ظهر البعير، والتي لا تحصل إلا على سبيل المصادفة النادرة جدّاً، فإذا فوّت العرب، وخصوصاً قواهم الاجتماعية والسياسية الحيّة هذه الفرصة السانحة، ذهبت ريحهم إلى أجل غير مسمى إنْ لم تذهب إلى الأبد. وإذا كانت الطرق كلّها تقود إلى “روما الجديدة” ومنها إلى “أورشليم” لمن يريد ذلك، إمّا عن حماقة أو عن مصلحة، ففي المقابل، هناك لمن له كرامة المقاومين وعزّتهم وعزمهم وذكاؤهم طرقٌ غير معهودة تقود إلى التحرير والانعتاق ومنهما إلى القدس.
“}]]