حملها أبو الأنبياء خليل الله إلى وادٍ موحش ليس به زرع ولا ماء ولا إنسان، وتركها هناك مع طفلها الرضيع، فنادتْه مراراً وهو مدبرٌ عنها لا يلتفت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء!
كان لا يجيبها، ولكنها لم تكن حائرة، فقالت لتستوثق: آللهُ أمرك بهذا؟ قال: نعم !، فنطقت بيقينها الثابت: إذن لا يضيعنا الله!
واليقين الثابت ينمو بالسعي والعمل، ولا يعيش في الدعة والركون، ولمّا لم يبق في جرابها تمرٌ، ولا في سِقائها ماءٌ، كان ابنها يتلبّط من العطش، فطفقت تسعى في زوايا النظر الأعلى حولها بين التلتين في الصفا والمروة سبعاً جيئةً وذهاباً.
كان قلبها قد بدأ ينفتح على باب اليقين فأسكتت جوعها وعطشها ولهفتها وصراخ طفلها وشواغل جوارحها: صَهٍ! وتسمّعتْ فسمعت حينها، وصرخت: لقدْ أسمعتَ ! وطلبت منه حاجة لحظتها: إن كان عندك غُوَاث!
كان غوث الله قد ظهر لها على صورة سيد الملائكة جبريل، فأجابها أولاً بفعلٍ لا بقول، إذْ ضرب الأرض بعَقِبه أو بجناحه ففارت الأرض، فجعلت تغرف في سقائها، وشَرِبت وأرضعت وليدها.
وناداها جبريلُ حينها قولاً وفعلاً ووعداً: لا تخافوا الضَّيْعَةَ، فإنّ هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلامُ وأبوه، وإنّ الله لا يضيع أهله.
فعلِمت أن إبراهيم عائدٌ إليها، وأن المكان سيعْمر، وبدأت البركات بالماء الذي نادى عوافي الطير تطلب أقْواتَها فدلّت الناسَ على الماء بحَوْماتها، فاستأذنوها أن ينزلوا عندها، فأذنت لهم واحتفظت حينها بحق السيادة: لا حقّ لكم في الماء… وكان الإسلام الأوّل القديم!
فاعلموا يا أهل غزة وأركانها أن الله لا يضيع أهله، وأن أفئدة الناس ستهوي إليكم، ويأتيكم الرزق واسعاً من كل مكان، وتكونون شامةً سادةً أعزّة بما صبرتم، وتجددون ذكرى إبراهيم وهاجر وإسماعيل باليقين والثبات في مهاجَر إبراهيم عليه السلام.