بقلم: د. سنية الحسيني
قد تكون قضية اللاجئين الفلسطينيين من بين الأدلة الصارخة الباقية آثارها حتى اليوم أمام العالم على الجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين من قبل الحركة الصهيونية ودولتها من بعدها، وبدعم ومساندة من قبل الدول الغربية أو القوى الاستعمارية في ذلك الوقت. تلك الجريمة التي اقترفت بحق شعب كامل، والتي تعد وصمة عار في جبين الانسانية في العصر الحديث، لاتزال حتى اليوم تعاني الانكار من قبل مقترفها، والتجاهل والتحيز لمرتكبها من قبل تلك القوى الغربية. بعد توقيع اتفاق أوسلو للسلام عام ١٩٩٣، واعتبار قضية اللاجئين من بين قضايا الحل النهائي، التي كان يفترض البت فيها خلال الخمس سنوات التالية على الاتفاق، بقي الوضع الفلسطيني كما كان يشهد على استمرار حالة الاحتلال، ولم تحل أي من القضايا المحورية في حياة الفلسطينيين، على رأسها بقاء نصف الشعب الفلسطيني مشتت لاجئ في أصقاع الأرض، لا يقوى حتى على الوصول لأرضه، وبقي آلاف المعتقلين الفلسطينيين يرزحون في غياهب سجون الاحتلال، دون ذنب أو جريمة. أجيال وأجيال فلسطينية متلاحقة تدفع ثمن ذلك الصمت والتحيز الغربي حتى اليوم، وخصوصا الأميركي القطب الأقوى عالمياً، والمنحاز بشكل أعمى للاحتلال، فإلى متى ستبقى العدالة غائبة في الحالة الفلسطينية؟
قامت المنظمات الارهابية الصهيونية في فلسطين بطرد ما بين ٧٠٠ إلى ٩٠٠ ألف فلسطيني من وطنهم نهاية العقد الرابع من القرن الماضي، بما شكل حوالي نصف الشعب الفلسطيني في حينه. وكررت الحكومة الاسرائيلية ذلك عندما طردت أكثر من ٤٠٠ الف فلسطيني من الضفة وغزة، خلال وبعد احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين في العام ١٩٦٧، بما شكل رحيل ما بين ثلث وربع الفلسطينيين الذين تواجدوا في تلك المناطق في حينه. تلك السياسة الممنهجة التي اقترفتها العصابات الصهيونية أو جيش الاحتلال بعد ذلك، كشفت الوثائق، أنها وضعت قبل تنفيذها بسنوات، منها ما رسم قبل أكثر من عقد على حرب عام ١٩٤٨، وأخرى حيكت قبل حرب عام ١٩٦٧ بسنوات. كما كشفت الوثائق كذب الرواية الصهيونية والاسرائيلية من بعدها حول تهجير الفلسطينيين، والتي تدعي أنهم خرجوا من وطنهم بارادتهم أو بتوجيهات من قيادتهم، كما كشف الواقع من قبل أن فلسطين لم تكن يوماً أرضاً بلا شعب، كما ادعت الحركة الصهيونية كمبرر لأخذ فلسطين.
وتكشف الشهادات والوثائق التي لم يحرر الاحتلال الا عن القليل منها، عن استخدام العصابات الصهيونية في نهاية الاربعينات والجيش الاسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، المجازر والقتل الجماعي للمدنيين، وعمليات اغتصاب وتمثيل بالجثث. فكشف اللثام فقط عن ٧٠ مجزرة حتى الآن، وكذلك عن تسميم آبار المياة للقرى والمدن الفلسطينية ونشر الأوبئة فيها، وقدر عدد من استشهد في العام ١٩٤٨ بـ ١٥ ألف فلسطيني على الأقل. عملت السلطات الاسرائيلية كذلك على قتل كل من حاول العودة من الفلسطينيين لدياره بعد ذلك، ودمرت وحرقت القرى الفلسطينية، لتمنع أي فرصة لعودتهم، ولازالة أي أثر لوجودهم. فتم تدمير ٥٣١ قرية فلسطينية بالكامل من مجمل ٧٤٤ قرية ومدينة في العام ١٩٤٨، كما أزيلت احياء ومناطق فلسطينية بأكلمها، خلال وبعد حرب عام ١٩٦٧، مثل حي المغاربة في مدينة القدس، ومنطقة اللطرون بالقرب من المدينة.
لم يتوان هذا الكيان الناشئ بإرادة الغرب عن سن قوانين رسمية لتشريع ممارساته غير القانونية والانسانية والأخلاقية ضد الفلسطينيين، ففي حين سمح قانون العودة الذي صدر في العام ١٩٥٠ لأي يهودي، أي كان موطنه الأصلي أو عرقه، بالدخول لفلسطين والحصول على الجنسية الإسرائيلية، بينما حرم الفلسطيني من العودة لأرضه وبيته في وطن أجداده. كما سن الكينست في العام ١٩٤٩ أنظمة طوارئ لمصادرة أراضي الفلسطينيين الزراعية أو تحت حجج تتعلق بالأمن العام، وفي العام التالي صدر قانون أملاك الغائبين، لمصادرة أراضي الفلسطينيين، الذين قتلوا أو طردوا أو منعوا من العودة لوطنهم، وجميعها جزء يسير من تلك التشريعات عموماً التي صدرت في تلك الفترة لتحقيق ذات الهدف. وعملت سلطات الاحتلال بعد ذلك على تطبيق مثل تلك التشريعات وأوامر عسكرية أخرى في الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد ذلك في العام ١٩٦٧، والتي تتفنن في منع عودة الفلسطينيين لديارهم ومصادرة ممتلكاتهم تحت حجج مختلفة، كاعلانها أراضي عامة أو أراضي دولة أو للتدريب العسكري أو للدواعي الأمنية، وهو ما يزال مطبقاً حتى اليوم.
جاءت كل اجراءات اسرائيل سابقة الذكر في ظل صدور قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ في العام ١٩٤٩، والذي تأسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين، على أساسه، وكان تنفيذه شرط من شروط قبول عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية، والتي استمرت في ممارساتها لطرد الفلسطينيين، ومنع عودتهم ومصادرة ممتلكاتهم بعد صدور القرار، في ظل انعدام النية والرغبة لردعها من قبل هذه المنظمة والمتحكمين في قرارها. تآمر المجتمع الغربي والقوى الاستعمارية على الفلسطينيين، عندما اتفقوا على اصدار قرار التقسيم رقم ١٨١ الصادر عن الجمعية العامة في العام ١٩٤٧، رغم عدم صلاحياتها البت في مثل هذه القضايا، فاقرار ذلك القرار كان الشرارة التي أطلقت جرائم المنظمات الصهيونية ضد الفلسطينيين، كما تثبت الوقائع. وليس هناك حاجة لاثبات تحيز هذه المنظمة الدولية، التي يعد تحقيق الأمن والسلم الدوليين السبب الرئيس من وجودها، فجاء أولى تحركاتها لتفعيل نظام الأمن الجماعي ضمن الفصل السابع الخاص باستخدام القوة، على ندرتها، لردع الجيوش العربية التي تحركت لنجدة الفلسطينيين في العام ١٩٤٨، وقبلت عضوية دولة اسرائيل بعد الاعلان عن قيامها مباشرة، رغم حيثيات ظهور هذه الدولة.
اليوم وبعد أكثر من سبعة عقود على عملها، فاق عدد اللاجئين الفلسطينيين الخمسة ونصف مليون لاجئ مسجل على قوائم الأونروا، رغم أن عددهم أكثر من ذلك، فنصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج أرضه. ولاتزال إسرائيل تتنكر لجريمتها وترفض تطبيق قرار ١٩٤، الذي يدعو لعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، فاستعدت خلال جولات مفاوضاتها مع الفلسطينيين، للقبول بعودة أعداد منهم إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ولبضعة آلاف منهم لأراضيهم لأسباب انسانية بشكل متدرج زمانياً، كما اشترطت في موضوع التعويض ربط ذلك بقضية تعويض اليهود الذين تركوا الدول العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، للهجرة لـ “إسرائيل”، مع التأكيد على عدم تحملها عبء التعويض، مقترحة انشاء صندوق دولي لهذا الغرض. وتستمر “إسرائيل” باحتلالها للاراضي الفلسطينية وخرق القواعد الدولية في تعاملها مع الفلسطينيين، وترفض تنفيذ أي من قرارات للشرعية الدولية، متحصنة بدعم أميركي وغربي مطلق، على جميع الأصعدة، وعلى اعتبار أن “إسرائيل” تنتمي للحضارة الغربية، رغم وجودها في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة صاحبة الاستخدام الأكبر للفيتو في مجلس الأمن، تضع على عاتقها مسؤولية حماية “إسرائيل” من صدور أي قرار من المجلس على غير مصلحتها.
بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، الذي لم تنفذ بنوده ولم تلتزم بها “إسرائيل”، بقي الفلسطينيون عملياً يرزحون تحت الاحتلال. تعاونت الولايات المتحدة مع “إسرائيل” طوال السنوات الماضية لافرغ اتفاق أوسلو من مضمونه، وحسم قضايا الحل النهائي، التي حددها الاتفاق، ومنها قضية اللاجئين، لصالح “إسرائيل”. بدأت الإدارة الأمريكية تتنصل من الاقرار بحق الفلسطينيين في العودة لديارهم، بعد توقيع اتفاق أوسلو في عهد الرئيس بيل كلنتون، فامتنعت ادارته في عامها الأول عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ لأول مرة منذ صدوره، والذي يجري التصويت عليه سنوياً، وصوتت ضده فى عامها الثاني، مؤكده أن القرار لم يعد مرجعية للحل بعد توقيع أوسلو، حيث قبل كلنتون بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الدولة الفلسطينية فقط، وليس للأراضي التي هجروا منها. في تطور آخر للموقف الأميركي، دعت ادارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خارطة الطريق التي وضعتها للفلسطينيين والاسرائيليين، لحل منطقي ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في ظل اعترافها بيهودية إسرائيل، وذلك لأول مرة من قبل إدارة أميركية، الأمر الذي حسم موقف الولايات المتحدة بانكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ذات الموقف الذي تمسك به الرئيس باراك أوباما بعد ذلك.
وفي تطور نوعي آخر، تبنت إدارة الرئيس دونالد ترامب الموقف الاسرائيلي بعدم احتساب الأعداد الحقيقية للاجئين الفلسطينيين، والاكتفاء باحتساب من بقي منهم حياً، وانكار صفة اللاجئ عن أبنائهم وأحفادهم، الذين ولدوا في بلد اللجوء. كما تبنت تلك الادارة في صفقة القرن التي طرحتها موقف “إسرائيل” باقران قضية تعويض اللاجئين الفلسطينيين بتعويض اليهود الذين خرجوا من الدول العربية للهجرة لإسرائيل. وأوقفت ادارة ترامب من بين عقوبات أخرى الدعم الأميركي عن الأونروا، والذي يشكل ثلث ميزانيتها، وعرضت استمرار عمل الوكالة للخطر. ورغم اعلان ادارة الرئيس جو بايدن تراجعها عن السياسات التي تبنتها الادارة السابقة تجاه الفلسطينيين، وهو الأمر الذي لم يتحقق عملياً، الا فيما يتعلق باعادة المساعدات المخصصة للفلسطينيين، بما فيها تلك المحددة للاونروا، الا أن الادارة الجديدة تبنت مقاربة الإدارة السابقة تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، فوافقت على اعادة مخصصات الأونروا المالية ضمن شروط، عكسها اتفاق اطار، يحد من عدد اللاجئين، ويقيد التوظيف والتعاون وتقديم الدعم على أساس قواعد محاربة الإرهاب الأميركية، ويفرض تدخلاً في محتوى المواد التعليمية في مدارس الوكالة.
إن قضية اللاجئين الفلسطينيين قضية سياسية، ترتبط ارتباط اصيلاً بباقي قضايا الاساسية الأخرى التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي لا يمكن حلها الا مجتمعة، في ظل تطبيق حق تقرير المصير، لشعب عانى من الظلم والصمت الدولي لعقود عديدة.