غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
شباب بلباس بسيط، يخرجون من نفق أرضي أو من بين ركام المنازل التي دمرها الاحتلال، يحملون قذائف مذخرة بعبوة محلية الصنع أو بندقية قنص أو عبوات العمل الفدائي، يتولى أحدهم مهمة التصوير، وآخر مهمة التأمين، والثالث مهمة التنفيذ، يترصدون لدبابات الاحتلال وقواته الراجلة والمتحصنة في البنايات، ويقتنصون أي فرصة للإجهاز على الهدف.
“اطلع اطلع قول يارب”، يحفز أحدهم زميله للإغارة والإجهاز على الهدف المرصود، يأخذ المنفذ نفسا عميقا ويقول: “اللهم في سبيلك وابتغاء مرضاتك، يارب وفقنا يارب، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، الله أكبر ولله الحمد”، تخرج القذيفة فتستقر في الهدف تماما، وينبئك مشهد النيران المشتعلة في الآليات عن مشاهد عزة وافتخار، بات أهل غزة والمتضامنون معهم ينتظرونها كل يوم أو يومين على أحر من الجمر.
جرعات الأمل
نفذت المهمة، وفي ظروف غير عادية، يعود المجاهدون إلى قواعدهم بسلام، يفرغ إعلاميّ القسام مادته التي توثق البسالة والبطولة والإقدام، ومشاهد كانت ستبدو هوليودية لو لم توثق، قبل أن يخرج الملثم بخطاب يجمل فيه حصاد المعركة ويوصل رسائله السياسية والعسكرية لمن يعنيهم الأمر، وفي أعقاب الخطاب تبث مشاهد البطولة والثأر والانتقام عبر مقطع قصير قد لا يتجاوز الدقيقتين، يشكل جرعة دسمة من جرعات الأمل، في أوج حرب الإبادة التي تنفذها قوات الاحتلال ضد شعب أعزل.
تعاظمت قوة المقاومة، وباتت تثخن الجراح في العدو، وتبدع في الإغارة عليه واستهداف قواته واقتناص آلياته، وباتت معها مقاطع القسام المصورة تحمل في طياتها صورا لعتاد جنود الاحتلال الذي غنمه المجاهدون، أسلحة، ذخائر، مناظير بنادق، وإلى جانبها خوذ الجنود القتلى وجعبهم العسكرية الممزقة بفعل الانفجارات، ما يعكس ضراوة المعارك، وحجم الخسائر في قوات العدو، التي يكتفي رقيبها العسكري بالإعلان عن القليل، الذي لا يحرجه أمام جمهوره اليائس.
طلة الملثم
وباتت طلة الملثم أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، شريانا مغذيا للحرب النفسية والإعلامية التي تخوضها المقاومة ضد الاحتلال، ومصدر إلهام وأمل للشعب الفلسطيني والمتضامنين معه، الذين يتشوفون لدحر الاحتلال وإنهاء العدوان، وهزيمة الجيش الغازي الذي اجتاح غزة الصامدة بقضه وقضيضه في محاولة لتهجير سكانه والإجهاز على ما تبقى من معالم الحياة ومقوماتها الأساسية.
تحول “الملثم” في أتون هذه المعركة، كما كل المعارك السابقة، إلى رمز في الشارع العربي والفلسطيني، يرون فيه صورة البطل الذي أذل الاحتلال وبث الرعب في قلوب جنوده وضباطه وقادة حكومته المتبجحة، وبات ينتظره الملايين حول الشاشات بشغف ولهفة وترقب، تنتظر منه خطابا يبث الروح المعنوية والحماس، ويحفز على الصمود والثبات، ومطمئنا القلوب المجروحة على حال المقاومة وقادتها الأبطال.
دحض روايات العدو
ويبدع “أبو عبيدة” والفيديوهات التي تبثها القسام في دحض روايات العدو الكاذبة والمضللة حول سير المعارك وقضية الأسرى وخسائر العدو، في الوقت الذي تعجز فيه آلة الإعلام الإسرائيلية عن مجاراة القسام في ذلك، فيبث روايات مضللة بلا توثيق، وإن كان ثمة توثيق فهو مضلل ومكشوف ومفضوح، بما يحوله إلى مادة للتدر في وسائل الإعلام العالمية.
ويبث أبو عبيدة مقاطعه مصورة أحيانا وصوتية أحيانا خرى، وتحتوي معظمها على خلفية تتضمن آية قرآنية أو صورة معبرة، يبدأ بيانه دائماً بـ “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد”، ويختمها بجملة “وإنه لجهاد نصر أو استشهاد”، وهي جملة الشهيد عز الدين القسام حين حاصره البريطانيون وطلبوا منه الاستسلام في أحراش يعبد قرب جنين، فبقي صامداً لست ساعات قبل استشهاده مع رفاقه عام 1935.
الأرض والسلاح يقاتلان
يقول المحلل العسكري اللواء واصف عريقات: إن “ما نشاهده اليوم عبر الفيديوهات التي تنشرها كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية بالصوت وبالصورة وبالدليل القاطع، وهذا الكم الكبير من عناصر المقاومة الذين يقاتلون من مسافة صفر ويواجهون الآليات والدبابات ويخرجون من تحت الأنقاض، هذا يؤكد أن الأرض تقاتل مع هؤلاء وأن السلاح يقاتل مع حامله”.
ويضيف لـ”المركز الفلسطيني للإعلام“: “هذه المعدات القتالية الإسرائيلية تدمَّر على يد هؤلاء المقاومين الأبطال بعد 44 يوما من العدوان الإسرائيلي وبعد 24 يوما من العملية البرية، هذا يعني بوضوح أن المقاوم الفلسطيني هو الذي يسيطر على الأرض وهو الذي يملك زمام المبادرة، وحينما يتم عرض معدات قتالية وعتاد كبير ومقتنيات وملابس عسكرية إسرائيلية وكل ذلك مثبت بالصوت والصورة هذا يؤكد أن المقاوم هو المسيطر على الميدان وقادر على نصب كمائن للجنود الإسرائيليين وإيقاعهم فيها”.
حرب إرادات
ما يجري على الأرض حقيقة هو حرب إرادات وليس حرب موازين قوى، برأي عريقات الذي يتابع: “نحن نعلم أن المقاومين إمكاناتهم متواضعة شيئا ما أمام هذا الكم الكبير من الإمكانيات الإسرائيلية، لكن من خلال شجاعة وبسالة المقاومين وقدرتهم على التحرك والتمويه وعدم تمكين الإسرائيليين من معرفة أماكنهم حيث يخرجون لهم من بين الأنقاض ومن تحت المباني المدمرة ويصيبونالآليات من مسافة صفر، هذه شجاعة منقطعة النظير”.
وعدّ أن ما نراه عبر فيديوهات القسام هو إعجاز عسكري لم يحدث في التاريخ من قبل، مؤكدا أن ظهور المقاتلين الفلسطينيين بهذه الطريقة وبالصوت والصورة يبث الرعب في نفوس الإسرائيليين سواء جيش أو جبهة داخلية أو قيادة سياسية وعسكرية حينما يشاهدون مثل هذه الصور.
إبداع إعلامي
الكاتب والمحلل السياسي ياسر أبو هين بدوره يرى أن الفيديوهات التي تنشرها كتائب القسام هي أحد أوجه الإبداع الإعلامي منذ بداية عملية طوفان الأقصى، وهي مقاطع تركز على عدة جوانب، منها إظهار جانب البطولة والفداء والبسالة في التصدي والالتحام المباشر والعمل الفدائي وقتال الشوارع وقنص آليات وجنود الاحتلال والسيطرة وسهولة التحرك.
كما تحرص هذه الفيديوهات، وفق أبو هين الذي تحدث لـ”المركز الفلسطيني للإعلام“، على إظهار الجانب الإنساني في تعامل عناصر القسام مع الأسرى الإسرائيليين، ومن خلالها يتم بث رسائل قوية للشارع والمجتمع الإسرائيلي الذي يتعامل مع ملف الأسرى كملف حساس ومهم جدا.
رسائل في عدة اتجاهات
ويضيف أن أهمية هذه المقاطع تبدو في الرسائل التي تعمل على توصيلها في عدة اتجاهات، منها رسائل للشارع الفلسطيني، وأثر ذلك ملموس في حالة رفع المعنويات والتلهف وانتظار الناس لها بمن فيهم النازحين والمكلومين في ظل حالة القهر والدمار، لسان حال الناس أنه لا يزال عندنا أمل كمواطنين في مقاومتنا.
يقول أبو هين: من خلال المتابعة والمعايشة أستطيع القول إن فيديوهات القسام أصبحت محط انتظار وترقب لدى الناس، سواء كانت المتعلقة بخطابات أبو عبيدة أو فيديوهات المعارك واصطياد الدبابات، كما يلاحظ أن الجمهور العربي والإسلامي كذلك يتلهف لسماع أخبار المقاومة وصمودها وتصديها للاحتلال من خلال هذه المقاطع.
ويتابع: “هذا جانب معنوي تحفيزي تعزيزي مهم جدا، له علاقة بتعزيز صمود الناس، ويوصل رسالة أنه حتى لو أمعن العدو في قتلنا وارتكب مجازر وحرق الأخضر واليابس إلا أن المقاومة لا تزال موجودة تؤدي ودورها وتوقع القتلى والخسائر في صفوف الاحتلال وأن كل المزاعم الصهيونية بأنه سيتم القضاء على المقاومة كلها أوهام وأحلام في عقلية قادة الاحتلال ليس أكثر”.
وأشار الكاتب والمحلل أبو هين إلى أن كتائب القسام تحرص على نشر هذه الفيديوهات لتكذيب ودحض رواية الاحتلال في موضوع الأسرى وخسائر المعركة، وتوجه رسائل للشارع الإسرائيلي حول السلوك العسكري والسياسي السيء لحكومته والتعامل الفاشل اللامسؤول في موضوع الأسرى، وهذا له يشكل عوامل ضاغطة على الشارع الإسرائيلي للتحرك أكثر للضغط على الحكومة خاصة في موضوع الأسرى.
تراكم الخبرات
وفي السياق، قال أبو هين إنه بات واضحا أن كتائب القسام في البُعد الإعلامي تعمل على تراكم الخبرات والاستفادة من المعارك السابقة وتطوير الأداء بشكل إيجابي يعطي مؤشرات جيدة حول التحضير الجيد والمبادرة في التعاطي اللحظي مع الأحداث والإعلانات المتكررة وعدم الغياب عن الشاشة مطلقا والحرص على الخروج في فترات يكون الناس فيها تميل إلى الضعف أحيانا بسبب ضراوة المجازر والقتل.
ولفت إلى أن القدرة على العمل الإعلامي والصمود وسط حالة الدمار وقلة الإمكانات وقطع الاتصال والإنترنت يعطي مؤشرا على حجم الاستعداد لدى القسام في مثل هذه الحالات، “مثل هذا النجاح الكبير ليس سهلا أمام الوضع الاستثنائي الذي تمر به غزة”.