العدوان العسكري الذي تعرض له قطاع غزة بعد التاسع أو العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ابتدأ بحربٍ وحشية ضد المدنيين ودور السكن والمستشفيات. وما زالت مستمرة حتى اليوم، باستثناء توقف لهدنة إنسانية لمدة أربعة أيام، مدّدت لسبعة أيام. ولم تعبأ أو تتردد في انتهاك القوانين الإنسانية الدولية، واتفاقات جنيف الرابعة. مما جعلها تعتبر حرب إبادة بشرية، وجريمة حرب.
ولهذا ضجّ كل صاحب ضمير في العالم، بإدانة الكيان الصهيوني، وداعميه وشركائه الدوليين، ولا سيما أمريكا أولاً، ثم بريطانيا. بل اعتبرت بسبب تغطية أمريكا وأوروبا لها، عاراً في جبين الحضارة الغربية.
لقد أسقطت قناع الاختباء وراء ادّعاء الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والقوانين الدولية. وهذا ما سيبين أثره السلبي على الحضارة الغربية لاحقاً، في المواجهة العالمية بين أمريكا ـ أوروبا من جهة، والصين وروسيا وبلدان العالم الثالث كذلك من جهة ثانية حيث فقد الفريق الأول سلاح المعركة الفكرية والأخلاقية.
على أن العدوان العسكري الموجّه ضد المدنيين رافقه، بعد حوالي عشرة أيام، شن حرب برية لاحتلال قطاع غزة. وقد حمل هدف القضاء على حماس (وطبعاً على سرايا القدس، وكتائب أبو علي مصطفى، وكل فصائل المقاومة). وقام هذا العدوان على مشاركة أمريكية ودعم بريطاني وألماني وأوروبي عموماً.
وبهذا تكون الحرب البريّة هي الأخطر على مستقبل الحرب ومآلاتها، لأنها هي التي تقرر لِمن النصر، فيما الحرب على المدنيين تقتل وتدمر بلا حساب، وبتفوّق عسكري مطلق، إلاّ أنها لا تحقق نصراً من الجو، فالنصر لا بد من أن يمشي على قدميه فوق الأرض المعنية.
فعلى الرغم مما يمتلكه الجيش الصهيوني من قوّة آلية وجويّة ومدفعية، وما يمتلكه من شروط الإعداد المستمر، والتعويض المتواصل، لما يخسره في الميدان، وما يحظى به من جسر جوي أمريكي إلاّ أن الحسم في هذه الحرب يتم بمواجهة بين الجيش الصهيوني والمقاومة.
والمقاومة هنا فرضت على هذه الحرب أن تكون المعارك فيها صفرية بمعنى من مسافة قصيرة تتراوح بين صفر مسافة، كما لو كانت كباشاً بالأيدي، من جهة وبين مائة متر، أو ما هو في مُتناول قذيفة تطلق من الكتف (الياسين 105 أو الآر.بي.جي. مثلاً).
أما الميزة الأهم فتتمثل في ما تتمتع به المقاومة، من مستوى قيادة مركزية على أعلى مستوى من حيث الذكاء والكفاءة، والتخطيط والتنفيذ الحربي، كما مستوى الفرد المقاوم، والكوادر الوسطى، مما يصل أعلى مستوى أيضاً. وهاتان السمتان أكدتهما تجربة المقاومة البريّة نفسها، كما تجربة السابع من أكتوبر إياه منذ الساعة السادسة والربع منه، لحظة انطلاقته.
على أن ثمة خاصية أخرى، لا تقل أهمية، أو تكمل الأهميتين السابقتين، وهي ما أُعدّ من أنفاق. يقال أنها بلغت مئات الكيلومترات، إن لم تتعدّها. الأمر الذي يعني أن ثمة قطاع غزة تحت الأرض، أي تحت قطاع غزة الذي فوق الأرض. وقد تم حفره وترتيبه وإعداده، على مدى خمسة عشر عاماً من الجهد المضني، والعمل الشاق الدؤوب، ومن شهداء، ارتقوا وهم يعملون فيه.
وبهذا تكون سمة الحرب البريّة جديدة كل الجدّة، من حيث هي حرب لاحتلال مدينة من جهة، والدفاع عنها من جهة أخرى. أما جدتها أو، في الأدق، فرادتها الاستثنائية فتتمثل في ما تحتها من أنفاق “تغطي” ما تحتها، فلا يعرف المهاجم بدقة كيف هي موزعة، أو أين هي مركّزة، وكيف هندستها، وما يمكن أن تخبئه في أحشائها” من مصانع سلاح، أو “مخازن”، تسمح لمن في داخلها، بإقامة طويلة فيها، لا يعرف أحد كم تطول ألِسنة أم سنتين، أو أكثر، أو أقل.
هذه المعادلة فرضت على الدبابات المهاجِمة وطائرات الحماية والتمهيد أن تدخل المدينة، في عماء شبه مطلق من ناحية “مواقع” الدفاع أو تحصيناته، عكس ما هو الحال في تجارب حرب المدن. فالهجوم هنا يدخل ولا يجد، أمامه “دشمة” أو “تحصيناً” لاستقباله أو لضربه. فهو يدخل ولا يعرف، إلاّ الطريق الخارجي الذي سيمر منه، ولا يعرف غير النقطة التي سيتوقف عندها، بانتظار الخطوة الثانية التي ستجيء من المدافع، الذي سيهاجم الدبابة، أو البيت الذي لجأ إليه بضعة جنود. فرتل الدبابات، أو الموقع الذي تحصّن فيه بعض الجنود، يتحولان من الهجوم إلى الدفاع، ولم يطلقا بعد رصاصة أو قذيفة على مدافع أو موقع دفاع. ومن ثم يأتي الهجوم من مقاوم أو بضعة مقاومين يحملون السلاح الخفيف (أثقلها صاروخ الياسين 105)، يخرجون من نفق، لتبدأ المعركة، حيث انقلب فيها المهاجم إلى مدافع، والمدافع إلى الهجوم، وأصبح هو المهاجم.
الأمر الذي يسمح بالقول إن في الحرب البريّة في العدوان على قطاع غزة، انقلب فيها المهاجم إلى مدافع، والمدافع إلى مهاجم، كما وقع فعلاً في كل الاشتباكات التي تواجَهَ فيها جيش العدوان مع قوات عز الدين القسّام، وسرايا القدس والمقاومين.
ولهذا أصبحت المقاومة في الحرب البريّة هي التي تملك زمام المبادرة، وتحديد لحظة المواجهة، وكيفيتها، ومن ثم هي صاحبة اليد العليا، على مستوى الاشتباك العسكري التكتيكي.
أما قرار الاستمرار في حرب العدوان على المدنيين، وفي الحرب البريّة، أو قرار وقف إطلاق النار فهو بيد أمريكا. فهي التي أشرفت ووافقت وشاركت بعد 7 أكتوبر مع قادة الكيان الصهيوني في إطلاق العدوان. وهي التي سعت إلى الهدنة الإنسانية. وذلك نتيجة عدة عوامل فرضت عليها أن تسعى لتلك الهدنة القصيرة، وتمديدها لثلاثة أيام أخرى. وهي التي، وبلسان وزير خارجيتها بلينكن بعد اجتماعه مع مجلس الحرب قررت البدء بها من جديد.
ومن ثم ما زالت هي المسؤولة عن استمرارها وتوقفها. لأن نتنياهو ومجلس الحرب أصبحا مأسورين لها، أكثر بكثير من أي مرحلة سابقة. لأنها هي التي انتشلتهما من هزيمة 7 أكتوبر. وهي التي راحت تغطي كل خسائر الحرب، لا سيما القذائف التي أسقطتها طائراتها على المدنيين. فضلاً عن حشد الدول الداعمة سياسياً ومادياً، لحرب العدوان.
ولهذا فإن وقف إطلاق النار، أو العودة إلى هدنة إنسانية، يتوقف على مدى تصاعد العوامل الضاغطة على الرئيس الأمريكي جو بايدن لإجباره على “الضغط” آمراً نتنياهو وزمرته في مجلس الحرب لوقف إطلاق النار أو الرضوخ لهدنة إنسانية طويلة.