[[{“value”:”
عمّان – المركز الفلسطيني للإعلام
“شعرت عندما غادرت غزّة.. كمن يولّي يوم الزحف.. تركناهم في المعركة لوحدهم”، بهذه الكلمات المفعمة بالوجع والألم والشعور بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه، عبّر الطبيب الأردني وصفي جعارة – أخصائي الجراحة العامة وجراحة المناظير وعضو الفريق الطبي الأردني لمساندة الأهل في قطاع غزة، عن حزنه الشديد عندما انتهت المهمّة دخل القطاع من أجلها لمدة أسبوعين فقط.
ويتابع بالقول: “كل واحدٍ منّا يتمنّى أن يعود لغزة للقيام بواجبه، رغم أنّ ما قدمناه عندما كنّا هناك أقل من الواجب بكثير.”
وفي مقابلة حول المهام التي قام فيها الفريق الطبي الذي رافقه، يصف الدكتور وصفي جعارة مشاعره المختلطة بالفرح والحب والألم والأخوة والصداقة والمشاعر والعلاقات الجميلة التي بنوها مع الفريق الطبي في المستشفى الأوروبي في غزة، ومع المرضى والأهالي، والأوقات الأكثر من رائعة التي قضوها بصحبتهم تحت القصف وصوت الصواريخ.
الصاروخ اللي بتسمع صوته مش راح يصيبك
ويقول ممازحًا: تعلمنا من أطباء غزة كلمة “تقلقش” الصــاروخ اللي بتسمع صوته مش راح يصيبك، ويؤكد أنّ هذه الوصفة التي يحملها أهل غزة من الشجاعة والقوة تزيل الخوف من القلب وتبعثت على الطمأنينة، لا سيما وانّك تسمع صوت الصواريخ فإنّك ما زلت على قيد الحياة.
وفي التفاصيل يؤكد جعارة، أنّ الفريق الطبي الذي رافقه يتكون من عشر أطباء من الأردن وعشر أطباء من أمريكا بإشراف مؤسسة رحمة للإغاثة بمختلف التخصصات، وتمكنوا من دخول غزة عبر معبر رفح قادمين من القاهرة في السابع من شباط الماضي الساعة السابعة مساء.
ويتابع حديثه بالقول: لاحظنا عددًا هائلاً من الشاحنات تقف على جانبي الطريق متوقفة منذ أكثر من شهرين على امتداد عشرة كيلو متر، وهناك في المعبر استقبلونا في غزة وانتقلنا مباشرة للمستشفى الأوروبي حيث كان عملنا هناك.
ويلفت بالقول: كانت النية أن نذهب لمستشفى شهداء الأقصى ولكن نصحونا البقاء في الأوروبي واتخذ القرار من رئيس الوفد البقاء بالفعل.
ويعبر عن ألمه الشديد ممّا رآه خلال طريقه للمستشفى من آثار الدمار الكبيرة والواضحة والشوارع المدمرة ووسائل نقل بدائية على طرق مدمّرة وهي مهددة بالخطر الدائم ومعرضة للقصف في كل وقت، وهو يحكي بذلك قصة شارع صلاح الدين الذي أصبح مدمّرا بكل مصانعه ومبانيه.
القطاع الصحي مدمّر
ويصف حال القطاع الصحي وما وصل إليه من كارثة حقيقية حيث لم يتبق سوى المستشفى الأوروبي من بين أكثر من 35 مستشفى، حتى مجمع ناصر الطبي تمّ اقتحامه من قبل جيش الاحتلال أثناء تواجدنا هناك.
ويقول الطبيب الأردني: لم يتبق سوى أربع مستشفيات عاملة في قطاع غزة وهي مستشفى الشفاء ومستشفى الكويتي وشهداء الأقصى والأوروبي.
ويتابع جعارة بالقول: المستشفى الأرووبي يتسع لمائتي سرير وفيه 900 مريض، وأغلبهم بعد الخروج يبقى في المستشفى لأنه ليس لديه مكان يذهب إليه لأنّ بيوتهم قصفت، وبعد أن تمّ علاجهم يبقون الأمر الذي جعل المستشفى مكتظًا بأعداد كبيرة بسبب أعداد المرضى وأهلهم الذي يملؤون الممرات وحرم المستشفى.
ويصف المشهد في المستشفى وحوله: خيم بدائية جدًا يفترشها النازحون كل ست إلى ثمان أشخاص في مساحة مترين مربعين، فيما يتواجد أكثر من ثلاثون ألف نازح في كيلومتر مربع واحد.
ويلفت إلى أنّ الوضع الإنساني داخل المستشفى صعب جدًا، حيث يمكنك الدخول إلى الحمّام بعد دور قد يستمر لساعتين، دون أدنى مقومات صحية، وغلاء معيشى يفوق الخيال.
وعن الضغط الهائل على المستشفى الأوروبي يقول جعارة: الحالات التي يتم علاجها في مراكز ومستشفيات أخرى بغزة يتم تحويلها للمستشفى الأوروبي لانه المستشفى الوحيد اليوم فيه عناية مركزة وغرف عمليات.
ويتابع حديثه: مع ذلك الكادر الطبي هناك مرهق جًدًا، ويتعرض لضغوط نفسية كبيرة جدا وكثير منهم توفي أقاربهم، يصلون عليهم ويعودون للعمل، لافتا في الوقت ذاته إلى أنّ بعض الأطباء متواجدون في المستشفى الأوروبي منذ أكثر من شهرين لأنه لا مكان يأوي إليه.
مهمّة رفع المعنويات
وأشار إلى أنّ وجود الوفود الطبية يريحهم نفسيا ويخفف عنهم، فلديهم كفاءات كبيرة جدا لكنها مرهقة بشكل كبير جدًا.
وأشاد بكل طبيب يذهب لغزة للمساعدة كونه صاحب رسالة ومبدأ، ويتعاملون مع الوضع بمنتهى البساطة.
ويلفت إلى أنّ هناك نقصًا في كل شيء في المستشفيات والتحدي أنّك تعمل بإمكانيات أقل من المطلوب.
أجمل عشاء تذوقته في حياتي
يروي عن جلسة العشاء التي يصفها بـ “أجمل عشاء” تذوقته، وما يتم خلاله من فضفضة، وكيف ترتفع معنويات الأطباء في غزة، بعد أن كانوا يشعرون أنفسهم منسيين.
ويضيف جعارة بالقول: تسمع صوت القصف أثناء العمل والكوادر تعمل بكل أريحية ومعنويات قوية بلا خوف، ونحن نتعلم منهم الصبر، وهم يحمدون الله دائما مهما استشهد من عائلاتهم، وكلمة الحمد لله تشعرك كم أهل غزة شعبٌ عظيم.
وينوه إلى أنّ الوفود تحمل المساعدات الطبية معها خلال دخولها لغزة وهذه المساعدات مهمّة وتحدث فرقًا في قدرات المستشفيات.
ويشير إلى علاقات طيبة بناها الفريق الطبي مع المرضى وأحدهم الذين تعرف عليهم وخلال جلسة معهم أنشد أنشودة جميلة جدًا بصوته الشجيّ، واستمع له في إحدى الجلسات الخاصة لمدائح نبوية وأناشيد.
ومع كل هذا الألم والدمار والصمود والمشاعر المختلقة يؤكد جعارة أنّ رائحة الخبز الذي كان يتمّ صنعه بطريقة بدائية كان له وقعٌ خاصٌ في نفسه.
أصعب شيء كانت مغادرة غزة
ويروي لحظات الحزن الشديدة عندما جاءت لحظة الحقيقية بمغادرة غزة، واصفا إياها بأنّها “أصعب اللحظات”.
وقال إن المهمة الإنسانية إلى جانب المهمة الطبية التي قمنا بها ورفع المعنويات بالغ الأهمية، حيث يصبح بينك وبين أهل غزة رابط عجيب جدًا، وحينما ودعنا الأطباء بـ “دموع العيون”.
ولفت إلى “كرم أهل غزة وعظمتهم” قائلا: في كل يوم يتصل علينا الأطباء لماذا لم تأتوا للعشاء معنا وصرنا نخجل منهم، كيف هذه المعلبات القليلة نشاركهم فيها.
وأضاف جعارة بالقول، كان معنا “قهوة وحلويات” لم تكن متوفرة في غزة، وكنا حين نجلس لتناولها مع زملائنا نشعر بنوع من التجانس الروحي العجيب والرابط الأخوي الذي تجاوز حدود الزمالة، فكانت لحظة الوداع صعبة جدًا حتى بعض الأطباء بكى.
ختامها رسم ابتسامة على وجوه الأطفال
وحول تلك اللحظات الجميلة التي قضوها بفرح مع الأطفال المتواجدين في المستشفى الأوروبي وحوله، قال جعارة: ختمنا فعاليتنا هناك بحفلة للأطفال، الذين يتعرضون لكل الصدمات والضغوط النفسية الكبيرة وأحد الأطباء قال لي لو كنت أعلم: لأحضرت أبنائي إلى هنا من شدة جمال الحفلة والفرح الذي عمّ المكان.
لكنّ لحظات الفرح بصحبة أهل غزة لا تطول، فيقول الطبيب الأردني جعارة: لحظة مغادرة صعبة جدًا.. لماذا أخرج أنا.. ولمن نتركهم.. مع أننا من ناحية طيبة قد نقدم أشياء بسيطة جدا في ظل الخبرات الكبيرة التي لديهم، وهم قادرون على القيام بالمهمة الصعبة جدًا على أكمل وجه، وما رأوه هذه المرة لم يكن مثل أي حربٍ سابقة، لكن وجودنا معهم كان رفعًا للمعنويات.
ويتابع بالقول: قلة الإمكانيات فقط هي ما يصعّب مهمّتهم.. وأنت لا تجد في نفسك القدرة على الخروج وتركهم.
ويختم جعارة وصف لحظة الحزن الشديد التي شعر بها عند الرحيل، قائلا: أي رحلة يشعر الإنسان بعد انتهائها بالسعادة.. إلا رحلتنا إلى غزة لم أشعر بالسعادة عند عودتي لبيتي بل شعور بالألم لفراق أهلنا وإخواننا.. لمن نتركهم.
“}]]