طبيبان في مستشفى الشفاء

إنهما النرويجيان مادس جلبرت وإيريك فوسا. كانا هناك، في مستشفى الشفاء في غزّة، عبَرا إليه من مصر في اليوم الخامس للعدوان الإسرائيلي، الوحشي كما صفتُه دائما، على القطاع المحاصَر (27 ديسمبر/ كانون الأول 2008 – 18 يناير/ كانون الثاني 2009)، وشاركا زملاءَهما الأطبّاء والمُسعفين الفلسطينيين في مداواة المصابين والجرحى، سيما الأطفال، وفي إجراء العمليات الجراحية، الصعبة غالبا. وفيما التوحّش الإسرائيلي المتواصل منذ 40 يوما على أهل القطاع فاق القدرة على التخيّل، وفيما يستبيح المحتلّون، في غزوٍ مشهودٍ، مستشفى (أو مجمّع) الشفاء، ويعزلونه عن العالم، ويعتقلون أطبّاء منه، ويستنطقون مرضى وجرحى ونازحين فيه، ويخرّبون في مرافقه، فإن قراءة (أو إعادة قراءة) كتاب الطبيبيْن النبيليْن، “عيون في غزّة”، وقد أصدراه في 2009، (ترجمة زكية خيرهم، دار الشروق، عمّان، 2011)، في هذه الأيام، تصبح على شيءٍ من الضرورة، وقد ضمّنا فيه مشاهداتِهما ويوميّاتِهما وانطباعاتِهما في أثناء تجربتهما بالغة الإنسانية تلك، لنطلُب من الأطبّاء والطبيبات، المرابطين هتاك، وزملائهم الممرّضين والممرّضات، أن يدوّنوا عن الملحمة التي يخوضونها، وهم يُسعفون ويطبّبون في ظروفٍ ليس ما هو أصعب منها. نطلُب أن يسرقوا الوقت، ليكتبوا الحكايات والمشاهدات وعن الفظاعات وعن أنفسهم في أتون معركة البقاء ضد جرائم التمويت والمحو. لقد دوّن النرويجيان البديعان عن مقطعٍ من المذبحة المديدة في البدن الفلسطيني المسجّى والمتروك هناك، وكان صنيعا رهيفا منهما.

يكتب إريك فوسا، في واحدة من صفحاته، إن في مستشفى الشفاء أخصائيين “يمكنهم أن يقوموا بأصعب العمليات بدقّة وبمستوى عال جدا”. ويضيف “كنتُ دائما معجبا بحجم العمل والوقت الذي كان يُعطى للحفاظ على أطراف المصابين والنتائج الجيدة بعد إجراء العمليات”. ويكتٌب زميلُه مادس جلبرت عن وحدة العناية المركزية “حتى في هذا الوضع المأساوي، كانوا يقومون بالعلاج على أفضل وجه، مع وجود عددٍ كبير من الإصابات الخطيرة، ومع النقص في الموارد، ورغم الحصار الذي ترك بصماته واضحةً على مستشفى الشفاء”. ويكتُب أيضا “الأطباء الفلسطينيون بارعون، ومتعلّمون تعليما جيّدا، ودائما يحبّون الاطلاع على الجديد في المجال الطبّي”. ويضيف “زملاؤنا في (مستشفى) الشفاء، وفي المؤسّسات الصحّية الأخرى في قطاع غزّة، كانوا دائما منهمكين ليؤدّوا مهامّهم خلال النهار الطويل، مع الحد الأدنى من النوم والراحة .. إنها بطولة تاريخية بكل ما للكلمة من معنى”. وتؤكّد هذه الشهادة المؤكّد، أن البطولة التاريخية التي نراها في هؤلاء الأطباء والمسعفين في “الشفاء”، وغيره من مستشفيات القطاع المنكوب، منذ اشتعل العدوان الجاري، موصولةٌ بمحطّات سابقةٍ من الافتداء الرائع. وفي موضعٍ آخر، يكتُب هذا الطبيب النزيه عن قدرة التحمّل لدى “زملائنا الفلسطينيين” التي لا تُصدّق. ويسأل: ما الذي يقودُهم؟ من أين أتوا بتلك القوة والشجاعة؟ ويضيف “في كل يوم جديد في (الشفاء) نرى قوة إرادة الأطبّاء والممرّضين والمتطوّعين ورجال الإسعاف الذين تركوا في أنفسنا انطباعا عميقا”.

كأن جلبرت يكتُب في 2009 العبارة نفسَها التي طالما تكرّرت في غضون العدوان الجاري، قبل أن يحتلّ المعتدون المسلّحون مستشفى الشفاء ويعطّلونه، وهي أنه “على وشك الانهيار”. هكذا بالضبط يكتُب، ثم يوضح “حالات من الفوضى، عمليّّتان في كل غرفة، في الممرّات وفي كل مكان”. وبعد أن يستعيد شطرا من ذكرياته لمّا كان طبيبا في بيروت إبّان الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، كما يفعل في غير موضع في صفحاتِه في الكتاب، يأتي على تفاصيل عملياتٍ جراحيةٍ صعبةٍ لأطفال ومُصابين في غضون الجرائم التي لم تتوقّف في ذلك العدوان غير المنسي. ما يحضُر كثيرا في نصوص زميله إريك فوسا الذي يُعلن عن شعورِه بالغثيان من مناقشة الولايات المتحدة والساسة الأوروبيين التفاصيل في صياغة قرار في مجلس الأمن بشأن قطاع غزّة، بينما يموت الأطفال، فـ”في كل يوم من أيام الحرب، كانت تدمّر حيوات أطفال عديدين، إما يفقدون حياتهم، أو أذرعهم، أو أرجلهم، أو أهاليهم”. وكان، في سطورٍ سابقةٍ، قد سأل، وهو يدوّن عن طفلةٍ في الثامنة من عمرها، عولجت من إصابة في الرأس، وهي مسنودةٌ إلى حائط في ممرّ في المستشفى، لم تُطلق أي صوت، كانت تُحدّق بعينيْها الكبيرتيْن، … تُرى، بماذا كانت تفكّر؟

تُرى، بماذا يفكّر أهل غزّة الآن، والوحش الإسرائيلي يستفردُ بهم، ويستقوي على مستشفىً اسمُه “الشفاء”؟ كان سؤالا في مذبحة مضت، ويُستعاد في المذبحة الراهنة .. اكتبوا، أطبّاءَ غزّة البواسل، أنتم من حُماة حكاية الألم الفلسطيني هناك.

 

المحتوى ذو الصلة