تستمر معاناة الفلطسنيين في قطاع غزة على كافة الأصعدة، بين حصار وتجويع وتهجير وتنكيل، فضلا عن المجازر التي لا تتوقف بفعل القصف المدمر لكل مظاهر الحياة هناك.
النازحون من بيوتهم طلبًا للعيش وحماية لأبنائهم من الموت، يكونون -حتمًا- على موعد آخر من المعاناة اليومية، والتي لا تستثني شيوخًا أو أطفالاً أو نساءً؛ إذ تُمعن القوات الصهيونية -بسبب فشلها في مواجهة المقاومة- في التنكيل بمن بقي حيًّا، فتقوم باعتقاله وتعذيبه انتقامًا منه ومحاولة فاشلة لتحقيق نصر زائفٍ على المدنيين العُزّل.
قصص مروعة رواها بعض الناجين من معسكرات وسجون الاعتقال الإسرائيلية، تبين حجم المعاناة التي ينتقل الفلسطينيون من إحداها إلى الأخرى، لا لشيء إلا لأنهم أصحاب الأرض والحق دون شراكة من المحتل الغاصب.
فريد عامر
مركز “بتسليم” الإسرائيلي يروي طرفًا من هذه القصص المأساوية على ألسنة أصحابها، ومن بينها قصة المواطن فريد عامر (65 عامًا)، وهو أب لستّة أبناء؛ والذي حكى كيف اعتُقل من منزله في شرق خان يونس واقتيد إلى معسكر اعتقال في داخل إسرائيل.
فمع اقتراب القصف الشديد في مطلع شهر ديسمبر الماضي، من بيت عامر قرر أن تغادر زوجته وابناه المتبقيان إلى مركز خان يونس، بينما بقي وحده في البيت قرابة أسبوع حتى نال بيته القصف الإسرائيلي، فقرر الخروج إليهم مستسلماً.
في ظهر يوم الثلاثاء (23-12)، خرج عامر حاملاً راية بيضاء، فأطلقوا النار على باب منزله لإرهابه؛ حيث يقول: “فوراً قلت لأحد الجنود، بالعبريّة: “أنا صاحب المنزل. أنا مُواطن. عُمري 65 عامًا”، وقد كرّرت ذلك مرّتين. قال لي الجندي: “ازحف على الأرض” وأمرني أن أخلع ملابسي كلّها، بما فيها الداخلية، وأن أبقى عاريًا. عندما فعلت ذلك تقدّم جنديّ نحوي من الخلف وضربني ضربة قويّة على الجهة اليمنى من ظهري، بيده التي كان عليها قفّاز من البلاستيك الصّلب. حتى اليوم ما زال موضع الضربة يؤلمني. بعد ذلك كبّل يديّ خلف ظهري وعصب عينيّ”.
وتابع عامر: “أبقوني نحو نصف ساعة ملقىً على الأرض في حديقة منزلنا. بعد ذلك أخذوني هكذا -عارياً- إلى منزل آخر في الحيّ يبعد عن منزلي مسافة 150 مترًا تقريبًا”.
تحقيق قاسٍ
واستطرد: “بعد مضيّ ساعتين أخذني الجنود للتحقيق وساروا بي وأنا لا أزال عاريًا وعيناي معصوبتان في طريق وعرة جدّاً – مليئة بالحجارة وقِطَع الزجاج والرّمال.. حقّقوا معي مدّة 45 دقيقة تقريبًا. سألوني عن جيراني وهل أعرف أشخاصًا من حماس”.
ويكمل عامر: “من هناك أخذوني إلى مكان قريب من الحدود شرقيّ خان يونس، بعيداً عن القصف والقذائف. طوال هذا الوقت كنت لا أزال عارياً، مكبّل اليدين ومعصوب العينين. في هذه المرحلة كانوا قد كبّلوا رجليّ أيضاً. احتجزونا هناك في العراء. كانت ليلة صعبة. كان المطر يهطل على جسمي العاري. كان إلى جانبي أشخاص آخرون ولكن لم أعرف من هُم. هناك جلبوا لي طعاماً للمرّة الأولى، بعد ثلاثة أيّام من الاعتقال. قِطعتا خُبز وخيارة”.
ويقول عامر: “في يوم الأربعاء أدخلونا إلى مركبة تشبه الحافلة ونقلونا فيها إلى مكان علمت لاحقاً أنّه في إسرائيل. استغرق السّفر مدّة ساعة تقريباً. عندما وصلت إلى هناك أعطوني ملابس داخليّة وزيّاً رماديّاً خاصّاً بالسّجناء. في اليوم التالي أخذوني في اللّيل إلى تحقيق استمرّ نحو ثلاث ساعات. أجلسوني على كرسيّ وربطوا يدي إليه، وربطوا رجليّ إلى حدائد مثبّتة في الأرض. قالوا لي أن أبقي رأسي منخفضاً.. مضمون التحقيق كان شبيهاً جدّاً بمضمون التحقيق الأوّل. بعد مضيّ يومين أخذوني مرّة أخرى للتحقيق، وقد استمرّ مدّة ساعة، وكان شبيهاً بسابقيه. وجّهوا إليّ الأسئلة نفسها – عنّي وعن أولادي وجيراني”.
ويضيف: “في معسكر الاعتقال رأيت أشخاصًا من قطاع غزّة، منهم من اعتُقلوا من منازلهم وآخرون اعتُقلوا من مختلف مستشفيات القطاع، كانت الظروف هناك صعبة جدّاً. أبقوا يديّ مكبّلتين وعينيّ معصوبتين طيلة فترة الاعتقال، في اللّيل والنّهار. كان من الصّعب جدّاً الدخول إلى المرحاض على هذا النحو، حتى أنّني فضّلت الامتناع عن الطّعام كي لا أحتاج إلى الدخول إلى المرحاض، الذي كان قذراً جدّاً”.
وتابع: “في أحد طوابير الأسماء الذي أجروه داخل “البركس” الذي احتجزوني فيه تبيّن لي أنّه يوجد معنا أيضاً طفل في الـ13 من عمره، من عائلة قنديل. لا أعرف اسمه الشخصي. سمعت الجنديّة تسأله “كم عمرك؟” فأجابها: “13 سنة”، ثمّ ذهبوا”.
عودة منهكة
أخذوا عامر بعد ذلك إلى حافلة أقلّتهم إلى معبر كرم أبو سالم. يقول عامر: “وصلنا إلى هناك عند السّاعة 7:00 صباحاً، مع حافلة أخرى. كنّا نحو 60 معتقلاً. فكّوا وثاقنا ثمّ مشيت من هناك حافياً مسافة 4-5 كم. قال لي أحد الجنود: “انظر، هذا هو الطريق. امش فيه، وممنوع أن تتوقّف أو تنظر إلى الوراء”.
وأكمل: “عندما وصلت إلى الجانب الفلسطينيّ من المعبر كانت نقطة توزيع تابعة لوكالة الغوث، طلبت أن أتحدّث مع محمد ابن أخي، وهو موظّف في وكالة الغوث. بعد أن تحدّثت معه جاء وأخذني، لم يعرف أحد من عائلتي أنّني كنت معتقلاً لدى الجيش الإسرائيليّ منذ قرابة أسبوعين. كانوا يظنّون أنّني لا أتمكّن من الاتّصال بهم لأنّ الاتصالات الخليويّة شبه مقطوعة، وأنّني ربّما خرجت من المنزل وأحاول الوصول إليهم. لقد فوجئوا وصُدموا عندما سمعوا بما جرى لي”.
ويختم عامر بقوله: “بعد ذلك أقلّوني إلى المنزل حيث التقيت أسرتي. بكينا، جميعُنا”.
تنكيل بالنساء
شهادة أخرى ترويها السيدة نهال الغندور (40 عامًا)، أمّ لأربعة أبناء؛ حيث تحدّثتْ عن اعتقالها على حاجز “نتسريم” في (22-11) وعن التنكيل الذي عانت منه خلال اعتقالها الذي استمرّ أكثر من ثلاثة أسابيع.
تقول الغندور: “أنا وزوجي وأطفالنا الأربعة (أعمارهم بين 4 و11 عامًا)، كنّا نسكن في بناية عائلتي، في مشروع بيت لاهيا، شمالي مدينة غزّة، قرب السوق. كنتُ أعمل معلّمة رياضيّات، وفي بداية الحرب بقينا في البيت. لكن بعد سقوط قذيفة على بنايتنا غادرنا جميعًا: أنا وزوجي والأطفال ووالداي وإخواتي جميعًا. كنّا ما مجموعه 25 شخصًا. انتقلنا إلى مخيّم جباليا للاجئين”.
تقول نهال إنها تركت بيت عائلة أبو دية في يوم (22-11) بصحبة أطفالها وعدد من عائلتها، وتقدّموا جنوبًا، حتّى وصلوا إلى الحاجز الذي نصبه الجيش في منطقة “نتسريم”.
وتكمل: “هناك، أمرَنا الجنود بالجلوس على الأرض. فجلستُ أنا وبنات شادي، روز ومي وسارة، على الرمال. بعد ذلك نادوا على سمر وقالوا لها أن تدخل خلف الجدار، ثمّ أمروني أنا أيضًا بالذهاب إلى هناك. أمرني الجنود بخلع ملابسي وبقيت بملابس الداخلية فقط. بعد ذلك سمحوا لي بأن أرتدي ملابسي ثانية وجلستُ بجانب سمر. غطّوا أعيننا. سألتْ سمر: مَن الموجود بجانبها؟، فأجبتُها أنّ هذه أنا. بعد ساعتين ناديتُها مرّةً أخرى ولم تردّ. لم أعرف أين هي”.
تتباع نهال: “في المساء نقلوني سويّةً مع نحو 15 امرأة أخرى، كانوا قد اعتقلوهنَّ، إلى مكان آخر. قالوا لنا إنّنا موجودات في منشأة اعتقال للجيش الإسرائيليّ. في كلّ مرّة تحرَّكتُ فيها تلقّيتُ ضربة على رأسي. في كلّ مرّة سمعتُ فيها أصوات جنود خفتُ من أن أتلقّى ضربة مرّة أخرى. طوال الوقت كانوا يمشّطون السلاح لإخافتنا، وكلّما كنتُ أسمع ذلك كنتُ أتلو الشهادتين لأنّني كنتُ متأكّدة من أنّهم سيُطلقون النار عليّ. طوال الوقت كنّا مُقيَّدات بأصفاد بلاستيكيّة”.
تعذيب وإهانات
واستطردت: “قام أشخاص بملابس مدنيّة، أعتقد أنّهم كانوا من “الشاباك”، بالتحقيق معي أربع أو خمس مرّات. في كلّ مرّة كنتُ أدخل فيها إلى التحقيق كانوا يُبدّلون الأصفاد البلاستيكيّة بأصفاد معدنيّة طيلة مدّة التحقيق. سألوني عن المختطَفين وعن الأنفاق، عن مواقعها، وعن كاميرات المراقبة. أحد المحقّقين صرخ عليّ وشتمني طوال الوقت”.
وروت نهال أنهم لم يسمحوا لهم بالنوم وأجبروهم على الوقوف في البرد في غرف جدرانها مبنيّة من الصفيح. تقول: “أهانونا طوال الوقت. في بعض الأحيان كانوا يضعون الطعام خارج الغرفة بحيث لا نتمكّن من الوصول إليه، ثمّ كانت تأتي الحيوانات وتأكله لنا. طوال اليوم كانوا يصرخون علينا ويشتموننا. كانت المراحيض مقرفة للغاية وشعرتُ بأنّ المياه التي قدّموها لنا غير صالحة للشرب”.
وأكملت: “في يوم الأربعاء الموافق (29-11) قالوا لنا: “يلّا، إلى غزّة”. عصبوا أعيننا وأخذونا إلى سجن. قالوا لنا إنّه سجن الدامون. حقّقوا معنا هناك أيضًا وسألونا نفس الأسئلة مرّة أخرى. التقيتُ هناك بأسيرات من الضفّة الغربيّة وكذلك بأربع معتقلات اعتُقلن معنا في غزّة وتمّ أخذهنّ قبل ذلك بيومين. كانت هناك جنديّات أو سجّانات نكَّلْن بنا جسديًّا ونفسيًّا. ركلنَنا وشدَدْننا من شعرنا، أهَنَّنا وصرخْن علينا”.
احتجزوني هناك أسبوعين تقريبًا، ثم نادوني أنا وزينب الرملاوي وقالوا لنا إنّهم سيطلقون سراحنا. عصبوا أعيننا، قيّدوا أيدينا واقتادونا طيلة ثلاث ساعات إلى منشأة الاعتقال التي كنتُ فيها في البداية. حقّقوا معي هناك مرّة أخرى وضربوني بقسوة بالغة. أهانوني وسحبوني من شعري. كنتُ حينها قد أصبحتُ يائسة. فقدتُ الأمل في أن يتمّ إطلاق سراحي.
في ساعات المساء من يوم الخميس الموافق (14-12) نادوني أنا وأربع نساء أخريات من قطاع غزّة وأوقفونا في الخارج، بعيدًا عن بعضنا البعض، في البرد وتحت المطر، لمدّة خمس ساعات. وعندما سألناهم عن سبب احتجازهم لنا هنا، صرخ الجنود علينا وشتمونا.
بعد منتصف الليل عصبوا أعيننا، قيّدوا أيدينا وأصعدونا إلى حافلة واقتادونا إلى معبر كرم أبو سالم. التقينا هناك بعمّال كانوا معتقلين في إسرائيل وأُعيدوا منها وهم الذين أوضحوا لنا أين نحن موجودات. عندها فقط فهمنا أنّهم سيُطلقون سراحنا.
العودة والصدمة
عدتُ منهكةً جسديًّا ونفسيًّا. بالكاد استطعتُ أن أمشي وكنتُ في وضع نفسيّ سيّئ جدًّا بعد كلّ ما مررتُ به في السجن. اتّصلتُ بعائلتي وعندما وصلتُ إليهم اكتشفتُ أنّهم يسكنون جميعًا في مخزن ما، كلّهم يجلسون هناك فوق بعضهم البعض لشدّة الاكتظاظ. بالكاد يوجد طعام وماء. أطفالي كانوا في وضع صعب جدًّا، مرّوا بأشياء فظيعة وأنا لم أكن بجانبهم. أصيبوا بالأنفلونزا وعانوا من حالات إسهال والتهابات معويّة، ولم تكن لديهم ملابس بديلة بتاتًا. ذهبتُ للبحث عن ملابس لكي أشتريها لهم لكنّي لم أجد. أنا أيضًا ليس لديّ أيّ ملابس وما زلت أرتدي “ترنينغ” أعطوني إيّاه في السجن. عثرنا أنا وزوجي على مبنى قيد الإنشاء، ودخلنا إلى شقّة هناك لا تزال بلا نوافذ. أغلقنا المنافذ بالنايلون.
أنا غير قادرة على التعافي ممّا مرّ عليّ. من الخجل أن رأوني وأنا شبه عارية، ومن حالة أطفالي.