[[{“value”:”
بينما كانت طائرة الزنانة (drone) تجعر فوق رؤوسنا في مخيم الشاطئ، في ظل حر شديد، وكذلك في ظل صمت وترقب وخوف، داخل بيت ليس لي؛ نزح أصحابه إلى جنوب قطاع غزة، فمات بعضهم أثناء الطريق، وفي ظل انتظار الفريسة القادمة التي ستموت بفعل اغتيال برج أو عمارة أو منزل أو حتى مقبرة، وسحق الأنفاس المحشورة داخل تلك الأمكنة، وبينما تتلظى قوبنا رعباً من أننا التالي الذي ننتظره، سألتني زوجتي: “لماذا لا تكتب قصة عن مخيم يصير في عُرف أهله إنشاء بيوت فيها غرفة أرضية خاصة، تكون عبارة عن مقبرة، بلا طلاء أو بلاط، إنما حفرة كبيرة تشبه النفق تتسع لدفن الأشخاص فيها؟ هل ذلك لأن الناس في زمن المقتلة صارت لا تجد مكاناً تدفن فيه شهداءها؟”
طفرت دمعة على خد زوجتي، وتنهدت وخرجت معي إلى الشارع على الرغم من العتمة التي تحاصر المكان، وقفنا عند الباب، فسألتها بحزن شديد: “هل سننجو من الإبادة كي نسجل الجرائم التي جرت مع الأطفال والنساء؟ هل سأكتب مجموعتي القصصية الجديدة التي سجلت كل الأفكار لأجلها في نوتة هاتفي المحمول؟ أم سنموت مثل الجميع كرقم عابر؟” تنهدت مجدداً ثم عدنا إلى الغرفة كي ننام على البلاط بينما تستمر سيمفونية الطائرة الزنانة تجعر داخل رؤوسنا بلا رحمة.
في الأمس، رأيت صورة لغرفة تشبه ما كنت سأكتبه في قصتي، مذيل أسفلها حوار بين صديقين؛ يسأل الأول صاحبه عن الزوجة والأولاد، فيرد الآخر: “هيني نايم جنبهم.” والصديق لا يعلم أن الأخير فقد الزوجة والأولاد في قصف أو قنص، وأن الأخير كان يقصد أنهم دُفنوا في الغرفة التي ينامون فيها، ثم وضع فرشته بجوارهم ونام.
تُرى كيف كان حال هذا الرجل حين سمع باستشهادهم وحين قام بدفنهم؟ بماذا يحلم الآن؟ بماذا يفكر؟ وكيف يتناول طعامه؟ وهل يتحدث معهم؟ هل يخرجون في الليل ليتسامروا رغم أنف الطائرات في الأعلى؟ أم إنهم تحللوا وصاروا نجوماً تعانق السماء؟
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فقد استشهد أحمد ابن عمي إبان المجاعة العظيمة حين خرج إلى منطقة الشاطئ الشمالي بحثاً عن طعام فاصطادته طائرة الكواد كابتر، حيث ظلت جثته لأيام في الشارع تنهشها الكلاب، حتى استطعنا الوصول إلى ما تبقى منها “بطلوع الروح” وبعد محاولات كر وفر، وفي متاهات الأزقة والدروب الملتوية في المخيم، حملناها وعدنا بها إلى بيت عمي، الذي استشهد أيضاً بالسرطان لأن المشافي دُمرت، ولا علاج في المدينة. قمنا بحفر حديقة البيت المتواضعة، أسفل شجرة التين، وصلينا عليه ثلاثتنا بأربع تكبيرات، أنا وجاري وأخي، ثم وضعنا الجثة أسفل الشجرة ونحن نقرأ ما تيسر من القرآن، في الوقت الذي يحلف فيه أخي الصغير بأغلظ الأيمان أنه سينتصر لدم أحمد وكل أبرياء غزة، وأن الجيل القادم سيكون جيل التحرير، وخصوصاً بعدما اعتاد القتل والموت والقصف، حيث لم يعد هناك مجال للاستسلام بعد تدمير القطاع وبعد خسارة الفلسطيني كل شيء، حتى فلذة كبده.
زوجة عمي “حياة المزين – الغول” توفيت في دير البلح لاحقاً، حزناً وكمداً على أحمد الذي مات وهو يسعى لجلب الطعام لأبناء أخيه ولنفسه التي خسر منها وزنه قبل أن يموت. والسؤال الذي يراودني دائماً: هل نحن أحياء؟ هل بعد كل هذا الدمار والتشريد والنزوح ظل منا شيء يقدس الحياة؟ وهل القتل بسبب الاحتلال الإسرائيلي فقط من خلال القصف والقتل؟ ماذا عن تدمير المشافي؟ ماذا عن مرضى السكري والضغط والسرطان والكلى والكبد و… الذين يموتون كل يوم بصمت؟ ألا يتحمل الاحتلال مسؤولية كل هذا القتل المتعمد؟ ألا يتحمل مسؤولية تدمير البنية التحتية للمؤسسات الصحية والتعليمية والخدماتية كالبلديات وسلطات المياه والأراضي؟ ومن المسؤول عن تحويل الأرض إلى مستنقع للبارود واليورانيوم والـ “تي إن تي”، الأمر الذي سيجلب السرطان للأجيال القادمة؟ أين الماء؟ حتى الماء الملوث الذي لا يصلح للاستخدام الحيواني نكاد لا نجده في قطاع غزة، بينما ينام العالم عن الحقوق التي أقرتها الشرعية الدولية والتي نادت بها كل المواثيق والأعراف منذ خلق الله آدم.
وما بين قبر أحمد في مخيم الشاطئ وأمه في دير البلح وعمي في تركيا تستمر الحكاية، ويستمر القتل والقنص عبر الكواد كابتر وقذائف المدفعية وصواريخ الزنانة والأف 35، فالجنود الإسرائيليون وكذلك المرتزقة جاؤوا لتدمير ثقافة وتاريخ بلد لا ينتمي إليهم، بل ينتمي إلى أمة عاجزة عن الصراخ لأجل الضحايا من الأطفال والنساء والعجائز، أمة عاجزة عن التظاهر والانفجار في وجه الأنظمة التي تسعى للتطبيع مع هذا السرطان.
عندما علمت بوفاة صديقي، هرعت للمشاركة في جنازته، وفوجئت حينها بأن متنزه المخيم قد تحول إلى مقبرة، وأن الأشجار صارت قبوراً، فقلت في نفسي: أينما وجدت تراباً، ازرع شهيداً.
بجوار المتنزه يقف المسجد الأبيض شامخاً، على الرغم من الدمار الكبير، فالمصلون قرروا ممارسة تلك الشعائر بين الركام، ظناً منهم أنهم في مأمن من بطش العدو، لكن الأخير غدر بهم قبل أسبوعين وألقى بصاروخ F16 وهم يصلون، فاستشهد أكثر من خمسة وثلاثين رجلاً، وأُصيب العشرات، بينهم جارنا في النزوح محمد أشرف الحناوي (16 عاماً)، وبُترت يده، ولم يجد من يسعفه، وكان نهر الدم يجري في المسجد، ويده بعيدة كأنها في آخر الدنيا. عاد محمد إلينا بعد ثلاثة أيام فقط من الإصابة، حيث لم يعد في استطاعة مستشفى المعمداني الصغير استقبال الحالات المرضية والإصابات إلاّ لأيام قليلة فقط من أجل استقبال أشلاء أُخرى، وخصوصاً بعد تدمير مستشفى الشفاء بالكامل وتحويله إلى منطقة مرعبة. ومحمد يعود إلينا مكتئباً حانقاً على البشرية، فقد استطاع الاحتلال تدمير حلم الفن التشكيلي الذي كان يتقنه. هذا ما عرفته عندما زرت محمد في بيته المتواضع بجوار بيت صديقي الذي نزحت فيه، وشاهدت اللوحات الفنية المتواضعة التي كان يرسمها، وبُترت يده اليسرى وكذلك أحلامه، ويواسيه الأب الذي يبحث عن طعام يمكن له إنعاش جسد ابنه، ولا طعام كذلك في المدينة.
عندما عدت من بيت محمد الحناوي وقفت أمام المرآة، وسألت نفسي: ما همّ المصابين الآخرين؟ كيف يجدون الدواء ولا دواء؟ كيف يجدون الطعام ولا يوجد سوى الطحين الآن؟ ذلك الطحين الذي فقد لأجله جارنا الشاب أمير أبو الطرابيش عينه عند دوار النابلسي. كيف سيعيش كل هؤلاء المبتورين بعدما تنتهي هذه المقتلة؟ كيف سيكون حالهم عندما يتوفر الدواء والطعام؟ أشياء كانت بثمن بخس، فقدوا لأجل إحضارها الغالي والنفيس، وفقدوا معها آدميتهم وصاروا في دواخلهم وحوشاً ضارية، ستنتقم لأجل ذواتها يوماً ما.
وبالعودة إلى المقبرة، فقد صارت الشوارع قبوراً أيضاً، حيث لم تعد الشوارع الواسعة التي كانت تحتضن الزهور إلاّ قبوراً، والحدائق صارت مملحة بدم الشهداء، وتنبت الأزهار بدم المباركين، وتغرق البيوت برائحة المسافرين إلى السماء. ولأن الشوارع قبور، فقد صارت المشافي حضناً يتسع لكل الغارقين في موتهم، إذ إن مستشفى الشفاء صار مقبرة كبيرة، قبل الاقتحام وبعده، ولم تسلم الجثث من العبث، فعندما اقتحم جنود الاحتلال مستشفى الشفاء قبل عدة أشهر، قتلوا النساء والأطفال، وعذبوا ودمروا، ثم دفنوا الجثث في مقابر جماعية، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أيضاً ذهبت جرافاتهم للتنكيل بالجثث التي دُفنت في حديقة المستشفى الخلفية، كأنهم يخافون موتنا أيضاً، ورأيت يوم انسحبوا من هناك، كيف كانت الأيدي مرفوعة بين التراب، كأنها تستجدي الإله في عليائه من الموت مرة أُخرى.
كل ذلك حدث ويحدث في كل دقيقة، فتكتظ المشافي بالجثث، ويعجز الأطباء المتطوعون عن علاج مئات الحالات، حتى صار الأمر عادياً، فإن قيل إن ابنك مات أو أخيك أو أمك، فتعامل مع الأمر كأنه خبر عادي يشبه خبر نوم طفل بعد معاناة في السرير. فالحياة تمضي والإبادة الجماعية كذلك، والسكون يسيطر على الجميع، فهل هي الصدمة أم الصبر واليقين بالجنة أم ماذا؟ وماذا سيحدث عندما تنتهي الحرب؟ ما هو مصيرنا في مرحلة ما بعد الصدمة؟ ماذا سيفعل الأب الذي فقد وحيده بين يديه؟ كيف سيقبل الحقيقة؟ من سيلعب معه؟ من سيحمل عنه الحطب وجالون المياه؟ ما هو حال الأمّ التي جهزت ابنتها للزفاف؛ فجاء الصاروخ ليقضي على أحلامها؟ كيف للأم أن تحتمل مشهد جثة الابن داخل مستشفى ناصر وقد تحللت، وبقي منها ملابس تعرفها؟ كيف سيعيش الأطفال وقد صاروا أيتاماً، بلا أب أو أمّ؟ كيف للأشلاء التي غُرست في الأرض أن تنسى أصحابها، ولعل أكبر خطيئة سيدفع ثمنها الاحتلال أنه بإبادته لتلك الأرواح زرع نفسية الثأر؛ فهل يعتقد المحتل أن هؤلاء يمكنهم نسيان دم الأبرياء من المدنيين؟
ذات مرة ذهبت، إلى مدرسة أسماء التابعة لوكالة الغوث، أتنقل من جدار إلى جدار مثقوب كي أصل إلى غرفة الإدارة، وفجأة وجدت قبوراً كثيرة أسفل أشجار السرو المزروعة هناك، بينما يتمدد طفل في حفرة مجاورة لقبر بلا ضريح ويهمس بصوت مفجوع: “يما ضميني، هيني إجيت لعندك.”
بكيت، بكيت كثيراً، وكفرت بكل من حولي من البشر، وسألت بقهر: يا الله هل تسمعنا؟ هل تسمع هذا الطفل؟ ماذا نفعل ونحن عاجزون عن حماية أطفالنا ونسائنا؟ كيف نهدهد كل هؤلاء اليتامى الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم؟ وأين الأنظمة من هذه المقتلة؟ ثم أنسحب وأنا ألعن عروبتي وهويتي.
وتخبرني صديقة عن حدث مشابه، حيث وجدت طفلة في يدها ورقة، بجوار قبر داخل أحد مراكز الإيواء، مكتوب فيها بلغة بسيطة رسالة إلى أب ميت، قُتل داخل المدرسة عندما اقتحموا حي الشجاعية، وتم دفنه برفقة جثث كثيرة تحت بند “مجهول الهوية”. لكن الطفلة تعتقد أن جثة أبيها موجودة مع تلك الجثث، فتخبره عن حياتها بعد سقوطه قتيلاً، وأحلامها بالعودة إلى المدرسة التي دُمرت، ورغبتها في إحياء عيد الميلاد في المرات القادمة بحضوره، ثم كتبت له أنها صارت نحيفة وفقدت أكثر من عشرة كيلوغرامات من وزنها بسبب المجاعة التي احتلت غزة، وأنها تحلم بقطعة كيك أو بسكويت.
بكيت وصديقتي، كما يبكي الآن أكثر من مليونَي فلسطيني في غزة، وأواسيني بأبي الذي اكتشفت رؤيته العميقة للحياة حين كان يقول، عندما نتبطر على الطعام ونرفض تناوله، مبتسماً: “احمدوا ربكم عهالنعمة، الله أعلم إن راح تلاقوها بكرة ولا لا؟” واكتشفنا أننا وصلنا إلى مرحلة بتنا نأكل خلالها طعام الحيوانات، ولا نجده. وقد صدق بحدسه حين قال أيضاً عند دفننا لأحد الجيران أو الأقارب: “نياله، لقا حد يدفنه، عقبال ما نلاقي حد يدفننا.” فهل كان أبي ولياً وكذلك كبار السن في المخيم؟! وهل نحن كذلك؟ نحن الذين شاهدنا المقتلة قبل أن تحدث، وكانت الأحلام ترسم لنا الحياة المقبلة بجحيمها من دون أن نعلم صدق النبوءات؛ إذ كنت وزوجتي نحلم في كثير من المرات ببيوت مدمرة وأدراج ومصاعد متهالكة، نتعثر فيها أملاً بالخروج منها.
ولأن الموتى يبُعثون في غزة، فقد صار كل شارع يحكي لنا قصة؛ كل بيت، كل ردهة، كل زقاق، حتى الجمادات المتحركة، كدراجة أمير بدوية (12 عاماً)؛ ذلك الطفل الدمث، الذي نسي أنه يعيش في مدينة مدقعة السواد، على الرغم من بزوغ النهار، فقد ظل يجري ويلعب في شارع قهوة غبن حتى سقطت قذيفة هاوزر مدفعية قريباً منه، واستشهد في إثرها، وتفتت جسده، فحملناه وهربنا به إلى المقبرة، ودفناه في خمس دقائق، وانتهت حياته فجأة كأنه لم يكن، بينما ظلت أخته تبكي طفلاً يحلم بأن يصير مهندساً بارعاً يعيد ترتيب المدينة بشكل حضاري، يحب المانجو ويكره الحليب، ويشاهد المحقق كونان والكابتن ماجد ولا يحب كوكب زمردة، طفلاً كان يمشي بين الناس كالنسيم، شأنه شأن عشرات الألوف ممن قضو في صواريخ الاحتلال الصهيوني الغادر، لكنه نجح في الموت فوق الأرض، فاستطعنا نقل جثمانه إلى التراب، ولم يتحلل كما الآلاف من الأطفال داخل بيوتهم، تلك البيوت التي سقطت فوق رؤوسهم وهم نائمون، فتعفنت الأجساد الطرية الناعمة وهي تناجي الله أن يوقظها أحد، وأن ينقذها من الركام الذي يؤذيها حتى في موتها، لكنها وُئدت وانتهت في لمح البصر، كأنها لم تكن، من دون أن يقدر أحد على فعل شيء.
كأن قدر غزة أن تصير مقبرة كبيرة، شوارعها ومتنزهاتها وبيوتها، وأن الأحياء فيها موتى على قيد الانتظار.
“}]]