[[{“value”:”
عزة – المركز الفلسطيني للإعلام
قليلٌ هم أولئك الذين تتجاوز حياتُهم آجالَهم، ويغيظُ موتُهم قاتليهم، ويُحققون بمواراة أجسادهم في القبور -ربما- أعظم مما حققوه وهم يتحركون في جنبات الأرض، ذلك هو ما تمثّل أمس واليوم في جنازة القائد الشهيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” الذي اغتالته آلة الغدر الصهيونية برفقة حارسه وسيم أبو شعبان في العاصمة الإيرانية طهران فجر الأربعاء الماضي.
لعله وهو يتلو آياتٍ تُمجّد الشهداء كان يرى من بين حروفها ذلك التأثير الذي سيُحدثه بعد أن يحين دوره في ركب الشهداء.. “بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون”؛ وما هي إلا أن أصابته نيران عدوه حتى تحقق له ما تمنى.. شهادة تدبّ الحياة في الأمة المتفرقة، فتجتمع على رثائه والصلاة عليه (غائبين وحاضرين)، ما بين شرق الأرض وغربها، حتى إن نعيه خرج اليوم من فوق منبر الأقصى المبارك الذي يُحاصَر من قوات الاحتلال التي انتشت فرحًا بقتله ظنًّا منها أنها حققت انتصارًا، وإذا بالتكبيرات من داخل المسجد تشقّ أفئدتهم، وتثير غضب قاداتهم الذين صُدموا حسرة على خيبة أملهم وفشل مكائدهم.
لم يكن وقع استشهاد إسماعيل هنية على الأمة كغيره من الشهداء أو القادة، فهو الذي اجتمع على بكائه الكل الفلسطيني في الداخل الخارج، بل رثاه العرب والعجم، والسنة والشيعة، والشعوب وكثير من الزعماء، وكانت جنازته في كل من إيران والدوحة دليلاً على أن الرجل كان أمةً وحده، وأن لديه من العطاء لقضيته ما استطاع أن يجمع عليه كل هذه القلوب رغم اختلاف مذاهبها أو أفكارها.
الكاتبة والناشطة السياسية لمى خاطر، قالت إن من أصدق وأدقّ ما قيل في الشهيد القائد إسماعيل هنية أبي العبد، رضوان الله ورحمته عليه، ذلك الوصف الذي اختصه به العالم الشهيد نزار ريان رحمه الله، حين قال عنه: “إن الله قد جمع عليه القلوب”.
وأضافت خاطر: “وها هي الأمة تشهد اليوم صدق ذلك الوصف، فيما العالم الإسلامي كله يشيعه باذلاً الدموع من خلفه، معاهدًا على الوفاء لنهجه، قابضًا على أثره المتدفق، الذي أحيا هممًا، وأوقد مشاعر، وجدد عزائم، وبعث توثّبًا كان طاويًا في جنبات كثير من الناس”.
وأكدت أن “هذا أثر عميق، قد لا يبدو الآن مرئيًّا، لكن صدق الرجل وعمق إيمانه وإخلاصه لقضيته كأنما يصنع اليوم كل هذه التعبئة الروحية والنفسية للجماهير على امتداد العالم الإسلامي، وتلك طاقة لن تتبدد، وهذا مرتكز يؤسس لبنيان عظيم”.
وختمت بقولها: “ما أصغر وأتفه أعداء أبي العبد وقد أعمتهم نشوة الانتقام، وغفلوا عن كل ما أحياه وشيّده الدم في أوصال هذه الأمة”.
“لن نعترف بإسرائيل”.. موقف ثابت لم يتغير لكل أحرار الأمة وقيادات المقاومة منذ تأسيسها، لكنها لم تأخذ ذلك الزخم حتى صارت رمزًا لكل من يرفض الاحتلال إلا بعد أن سجلها القائد الشهيد بصوته الحي ولسانه الفصيح وشعوره المتدفق ونظرته الحادة، في كل موقف وأمام كل الشعوب، وفي مختلف الظروف، إلى أن صارت شدوًا يتغنى به الناس في كل مكان: “كل القائد إسماعيل.. لن نعترف بإسرائيل”.
وفور استشهاد هنية، انطلقت كلماته تلك كالسيل العارم تطوف أرجاء الدنيا، لتؤكد أن موقفه ذلك أطول من سنيّ عمره، ليمتد عبر الأجيال القادمة موروثًا صادقًا يُحيي فيها القضية ويبعث فيها الهمة، ويغرس فيها العزة والكرامة.
ولئن سجّل التاريخ لشيخ الحركة ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين أنه عن جمع أهل فلسطين على مقاومة المحتل، فقد سجّل التاريخ كذلك للشهيد القائد إسماعيل هنية أن فلسطين والعالم كله اجتمع مرة أخرى لنصرة القضية الفلسطينية في أحداث طوفان الأقصى التي انطلقت تحت قيادته، فصارت فلسطين بسبب ذلك ملء السمع والبصر، وانتشرت القضية بأعظم بكثير مما كان يتخوف منه أعداء فلسطين، خاصة بين الأجيال الجديدة التي كادت أن تنسى أن لها أرضًا محتلة وأقصى مستباح، بعد مؤامرات عالمية أرادت وأد القضية للأبد، فجاء الطوفان تحت راية هنية، ليجتاح كل تلك المؤامرات ويُعلي راية فلسطين من جديد.
وفي الوقت الذي كان الكثيرون يرون أن طوفان الأقصى معركة دفاعية وبعضهم يراها هجومية، وآخرون يرونها مغامرة، كان هنية يراها حدثًا جامعًا يوحد الأمة تحت راية الجهاد وتحرير الأرض والمقدسات، ويستنفر الشعوب لتجتمع على قضيتها الأم وتتجاوز حسابات الساسة وقواعد اللعبة.
وفي مداخلة على قناة الجزيرة خلال تشييع جنازة الشهيد إسماعيل هنية في الدوحة اليوم، قال الصحفي عبد الفتاح فايد إن الشهيد هنية كان يُمثّل رمزًا لحركات التحرر الوطني في العالم، ورمزًا للأمة الإسلامية كلها، في مواجهة الاحتلال، فهو لم يكن عابرًا لحدود حركة حماس فقط، بل كان عابرًا لخارج حدود فلسطين إلى كل البلاد العربية والإسلامية ولكل أحرار العالم فيما يتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان.
وأضاف فايد أن هنية لا يُنظر إليه كبطل فلسطيني، ولكن يُنظر إليه كبطل شعبي في العديد من أقطار العالم الذي تُعزف له الأغاني وتترنم الشعوب باسمه، كما أنه يُنظر له كبطل إسلامي من الذين يُعيدون سيرة الأجداد الأبطال الخارقين، مشيرًا إلى أنه كان شخصية توافقية في الحراك الفلسطيني؛ حيث لم تكن هناك حركة فلسطينية واحدة تختلف مع إسماعيل هنية، وكان جسرًا عابرًا بين كل حركات التحرر الوطني الفلسطيني، وكذلك كان جسرًا عابرًا بين الدبلوماسيين ووزراء الخارجية في كثير من دول العالم.
الوداع المهيب الذي حظيت به جنازة الشهيد إسماعيل هنية، يثبت أن جامعية الشعوب على من يمثّل مقاومة المحتل ونصرة الحق والحفاظ على المقدسات، أقوى وأرسخ وأبقى أثرًا من زعامات تستمد قوتها من نفوذ عالمي أو قوة أمنية أو عمالة شائنة.
من مدينة قُم الإيرانية إلى الدوحة القطر، إلى إندونيسيا واليمن وتركيا والعراق، كانت الأرجاء ممتلئة بالهتاف لرجل لم يكن له من الحراسة العسكرية ولا من الحصانة الدبلوماسية مثل ما لزعماء الدول، ولكنه هتاف لمن مثّل قضيتهم، وجمعهم على نصرة القضية حيًّا وشهيدًا.
“}]]