[[{“value”:”
هناك بلدة قديمة في شمال قطاع غزة يقال لها جباليا، وعلى أطرافها مخيم حمل اسمها هو من أكبر مخيمات اللاجئين الذين طُردوا من ديارهم قبل نحو ستة وسبعين سنة قاسية.
كانت قديماً سهولاً خصيبة تمرح فيها أشجار الحمضيات، وتغطيها سنابل الحنطة والشعير وعروش الأعناب، وتمتد أطراف بيوتها الكبيرة حول أشجار الجميز المعمّرة، وتصل أراضيها إلى ما وراء الخط الأخضر المغتصب شرقاً.
كانت قريبة من الطريق الساحلية القديمة التي تربط آسيا بإفريقيا، وتأتيها القوافل المصرية والشامية والعراقية والحجازيّة عبر الطريق الواصل بين يافا وغزة، كما تمر بها الحملات العسكرية والحاميات المتنقلة، ولذلك ترى مجتمعها يتجدّد، ويحمل طبائع المجتمعات الزراعية والتجارية والعسكرية.
قبل دخول الإسلام كان فيها دير كبير وعليه حرّاس ينْفرون لحراسة كنائس سيناء ورهبانها المنقطعين للعبادة، وكانت لهم آثار تدل عليهم دمّرها أوغاد العصر كما فعلوا بكل أثر حضاريّ لا ينتمي لهم.
وقد رسم الفاتحون الأوائل فيها رسوم بقائهم بمسجد قديم عريق سمّي المسجد العُمَريّ تبرّكاً بالفاتح الأول لتلك الديار في عهده الشامخ، وكثيراً ما تعرّض هذا الجامع العمري القديم للاغتيال كما حصل في هذه المعارك العجيبة اليوم إلا أن اسمه كان يعود مجدداً يصِل الحاضر بالماضي في عزيمة وحياةٍ كما سترونه قريباً إن شاء الله.
وظلّت هذه المنطقة في حِقب الإسلام المتعاقبة من مناطق الثغور المستعدّة لمواجهة غزاة البرّ والبحر في موجات الدفاع الأولى أو الاستنزاف، ولهذا كانت أكثر أراضي جباليا أراضيَ وقفٍ محبوسة على فلسفة الصمود والبقاء.
أهل جباليا ومن سكن إلى جوارهم معروفون بشدّة البأس، وفيهم تديّنٌ فطريّ، وكانت جباليا ومخيمها عصيّة على الكسر رغم عشرات الاجتياحات الكبيرة العنيفة التي أصابتها بغرض كسر شوكتها وإذلال أهلها والانتقام من مجتمعها المقاتل الشرس.
ولو كتب المؤرخون عن تاريخ صمود هذه الجغرافية المقاتلة لوجدوا سجلات مجيدة عن أحداثها الفاصلة في تاريخها ورجالها المؤثرين المُلهِمين، ولاسيما في هذه الحقبة المعاصرة التي جدّد فيها الجباليّون ميراث الفاتحين وأهل الثغور، ولا ينسى الناس أنّها مهد الانتفاضة الأولى.
وحُقّ لنا أن نفتخر بجباليا كما افتخر شاعرنا الكبير هارون هاشم رشيد بها قديماً:
أوّاهُ يا جَبَالِيا * يا ساحةً للغضبِ
تَفجَّرَتْ مِنْ نَسْغِها * بالعَارضِ المُلْتَهبِ
فَأذْهَلتْ عالَمَنا * بِطِفْلها المُنْتَصِبِ
وأيقظتْ أيَّامَنا * على الصَّدى المُصْطَخِبِ
*
جَباليا جَباليا * وينهَضُ المُعَسْكَرُ
فَكلُّ بيتٍ جَمرةٌ * وكلُّ شِبرٍ حَجرُ
وكلُّ طفلٍ ثورةٌ * مَشبوبةٌ، تَنفجِرُ
تَقولُ يا أعداءَنا * جِئناكُمو، فانتظروا
*
جَبالِيا وليلُها * وصُبحُها والزَّمَنُ
توقُّفٌ في بابِها * توقُّفٌ مُرْتَهَنُ
هُنا، فهاتُوا مِثلَها * هُنا تَمورُ المِحَنُ
هنا فهاتوا مِثلَها * يصرخُ فينا الوَطنُ
“}]]