تكدس الشيكل… نذر” جلطة نقدية” في شرايين الاقتصاد الوطني والحل سياسي

رام الله / PNN –  تتفاقم أزمة تكدس عملة الشيكل في السوق الفلسطينية بوتيرة متسارعة، لتتحول من تحدٍّ نقدي إلى خطر اقتصادي شامل يهدد استقرار النظام المصرفي ويقوّض النشاط التجاري، وسط تحذيرات من تداعيات الأزمة، دون إيجاد حلول إستراتيجية.
ويؤكد خبراء ومختصون ومحللون اقتصاديون وأساتذة جامعات ، أن استمرار رفض البنوك الإسرائيلية استقبال الفائض النقدي من الشيكل، إضافة إلى تعطل آليات التحويل المتفق عليها بموجب بروتوكول باريس،  يدفع بالاقتصاد الوطني الفلسطيني نحو مسارات مقلقة أبرزها تنامي السوق السوداء للعملات، واتساع دائرة الاقتصاد غير الرسمي.

وفي ظل هذه الظروف، يبرز المختصون وأساتذة الجامعات، غياب العملة الوطنية وتباطؤ التحول الرقمي كعوامل تضاعف الأزمة، ما يفرض ضرورة تحرك عاجل وإعادة نظر في السياسات الاقتصادية المعتمدة للحد من تداعيات الأزمة قبل انفجارها الكامل.

مخاوف من تراجع إضافي في الأداء والنشاط الاقتصادي

وقد أعلنت سلطة النقد الفلسطينية الخميس الماضي، أن أزمة تراكم الشيكل في المصارف الفلسطينية وصلت إلى مستويات تهدد استمرار تمويل التجارة مع الجانب الإسرائيلي عبر القنوات المصرفية.

وأوضحت سلطة النقد في بيان صحفي، أن المصارف الفلسطينية أصبحت غير قادرة على استقبال مزيد من النقد بعملة الشيكل بسبب عدم قدرتها على شحن فائض الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية

وقالت سلطة النقد: “إن الشيكل تراكم في السوق الفلسطينية على مدار السنوات الماضية، وإن سقوف الشحن التي يضعها الجانب الإسرائيلي لم تستجب للزيادة الطبيعية في حجم الاقتصاد الفلسطيني خلال هذه السنوات، وإن السقوف الحالية تَحول دون قدرة المصارف الفلسطينية على شحن فائض الشيكل وتغذية حساباتها بما يُسهم في تمويل عمليات التجارة وتسوية الالتزامات بين الجانبين”.

وأكدت سلطة النقد أن المصارف الفلسطينية تحمّلت وتتحمل أعباء مالية كبيرة نتيجة عدم قدرتها على شحن فائض الشيكل، كما يتحمل المواطن أعباءً إضافيّة بسبب عدم قدرته على تنفيذ عملياته المالية من خلال المصارف بعملة الشيكل ولجوء بعض العملاء إلى بيع الشيكل وشراء عملتي الدينار والدولار مما أدى إلى خلق سوق سوداء لتجارة العملة.

وحذرت سلطة النقد من أن استمرار الأزمة من شأنه التأثير سلباً على السيولة اللازمة لتمويل التجارة محلياً وخارجياً، منذرة بتراجع إضافي في الأداء والنشاط الاقتصادي في دولة فلسطين.

وأكدت سلطة النقد أنها خاطبت كافة الجهات ذات العلاقة للمساعدة في شحن فائض الشيكل المتراكم في السوق الفلسطينية دون تحقيق نتائج إيجابية لغاية الآن.

وشددت سلطة النقد على أن الأمر يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لإيجاد حل جذري لتراكم الشيكل في السوق الفلسطيني وحث الجانب الإسرائيلي على الوفاء بالتزاماته تجاه عملته والسماح بشحن فائض الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية.

عنصر تهديد مباشر للاقتصاد الوطني

ويقول الخبير الاقتصادي د. مؤيد عفانة إن أزمة فائض الشيكل في الاقتصاد الفلسطيني لم تعد مجرد خلل فني أو مشكلة نقدية مؤقتة، بل تحوّلت إلى عنصر تهديد مباشر للاقتصاد الوطني، ومصدر خطر إضافي على استقرار النظام المصرفي في ظل تعطل الآليات التنظيمية المنصوص عليها في الاتفاقيات الاقتصادية مع إسرائيل، وفي مقدمتها بروتوكول باريس.

ويوضح عفانة أن بيان سلطة النقد الفلسطينية الأخير شكّل إنذارًا واضحًا بشأن وصول فائض الشيكل إلى مستويات غير مسبوقة تهدد استمرار تمويل التجارة مع الجانب الإسرائيلي، نتيجة عجز المصارف الفلسطينية عن استقبال المزيد من النقد بالعملة الإسرائيلية، بسبب توقف البنوك الإسرائيلية عن استقبال الفائض الفلسطيني من الشيكل، وهو ما أدى إلى أزمة تكدس حقيقية داخل القطاع المصرفي.

ويشير عفانة إلى أن المادة 27 من بروتوكول باريس الاقتصادي تمنح سلطة النقد الفلسطينية الحق في تحويل الشواكل الفائضة من البنوك المحلية إلى بنك إسرائيل، لاستبدالها بعملات أجنبية، غير أن هذه الآلية تعطلت بفعل توقف عمل اللجنة الاقتصادية المشتركة بين الجانبين، الأمر الذي فاقم الأزمة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى حدها الحالي.

ويلفت عفانة إلى أن جذور الأزمة تعود إلى نمو الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير منذ توقيع اتفاقية أوسلو قبل أكثر من ثلاثة عقود، دون أن يقابل ذلك رفع فعلي ومتناسب لسقف المبالغ التي تستقبلها إسرائيل من الشيكل الفائض.

الأزمة تعمقت بعد 7 أكتوبر 2023

ويضيف عفانة: “رغم رفع السقف جزئيًا في مراحل سابقة، إلا أنه بقي دون الحد المطلوب، خاصة مع تضاعف كميات الشيكل المتدفقة إلى السوق الفلسطينية من عدة مصادر، منها التجارة غير الرسمية، ومشتريات فلسطينيي الداخل، وأجور العمال في إسرائيل والمستوطنات، وفروقات الأسعار، فضلًا عن غياب السيطرة الفلسطينية على الحدود والمعابر.

ويبيّن عفانة أن الأزمة تعمقت بشكل خاص بعد 7 أكتوبر 2023، في ظل التصعيد الإسرائيلي ومحاولات “الخنق الاقتصادي” ضد السلطة الفلسطينية، ما جعل الفائض من الشيكل يشكل خطرًا مباشرًا على العمليات التجارية، ويهدد المصارف بمخاطر عدة مثل التخزين، والتأمين، وتجميد النقد.

ويحذر عفانة من أخطر ما يمكن أن ينتج عن استمرار الأزمة، وهو نشوء سوق سوداء للعملات الأجنبية داخل فلسطين.
ويوضح عفانة أن وجود سوق موازية بأسعار صرف أعلى من السعر الرسمي سيؤدي إلى استغلال حاجة المواطنين والتجار لعملتي الدينار والدولار، ما سيضاعف أعباءهم المالية، خصوصًا أن رواتب موظفي القطاعين العام والخاص تُدفع غالبًا بالشيكل، في حين تتم الكثير من الالتزامات الاقتصادية الأخرى بعملات أجنبية، مثل تمويل التجارة، شراء العقارات، المهور، ورسوم الجامعات.

ضرورة التوجه إلى المؤسسات المالية الدولية

ويدعو عفانة إلى ضرورة التحرك العاجل من أجل وضع حلول عملية للأزمة، تبدأ بتوحيد جهود سلطة النقد مع باقي الجهات المعنية، والتوجه نحو المؤسسات المالية الدولية للضغط على إسرائيل للوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاقيات.

ويوصي عفانة بإجراء دراسة متخصصة لرصد مصادر تدفق الشيكل وضبطها ضمن أطر تشريعية، بما يخدم المصلحة الاقتصادية الفلسطينية.

ويشدد عفانة على أهمية التحول الرقمي في التعاملات المالية كوسيلة لتقليل التداول النقدي للشيكل، مشيرًا إلى أن قرار مجلس الوزراء الأخير بشأن تعزيز الدفع الإلكتروني في القطاعين العام والخاص يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح.

ويؤكد عفانة على ضرورة توفير بنية تحتية رقمية وتشريعات داعمة، إلى جانب حوافز تشجع المواطنين على استخدام وسائل الدفع الإلكتروني بشكل أوسع.

ويعتقد عفانة أن أزمة فائض الشيكل، إن لم تُعالَج برؤية استراتيجية، ستتحول إلى عبء دائم يُقيد النمو الاقتصادي ويزعزع استقرار القطاع المصرفي الفلسطيني.

بحاجة لرفع السقف من 16 إلى 22 مليار شيكل

من جانبه، يقول الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي أيهم أبو غوش إن مشكلة فائض العملة الإسرائيلية (الشيكل) في السوق الفلسطينية ليست جديدة، لكنها وصلت مؤخرًا إلى مستويات غير مسبوقة، ما يهدد بانزياحات خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني، بدءًا من تقويض القطاع المصرفي وصولًا إلى توسع الاقتصاد غير الرسمي وتراجع الإيرادات الضريبية.  

ويشدد أبو غوش على أن غياب عملة وطنية فلسطينية هو العائق الأكبر، إذ تُجرى معظم التعاملات بالشيكل، وهي عملة خاضعة لسيطرة البنك المركزي الإسرائيلي الذي يتحكم في تدفقاتها إلى السوق الفلسطيني.

ويشير أبو غوش إلى أن إسرائيل ترفض مراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي رغم مرور 31 عاما على توقيعه، والذي يحدد سقف تحويلات النقد إلى فلسطين بـ 16 مليار شيكل سنويًا، رغم نمو الاقتصاد الفلسطيني لاحقًا وارتفاع احتياجاته إلى 22 مليار شيقل على الأقل.  

ويقول أبو غوش: “البنك المركزي الإسرائيلي يرفض زيادة السقف، مما يخلق فجوة بين العرض والطلب، بينما تُضخ فائضات الشيكل إلى السوق الفلسطيني عبر قنوات غير رسمية، منها السوق السوداء وتهريب المحروقات والتبغ، فضلاً عن شراء الأراضي والعقارات بالشيقل”.  

شلل التعاملات التجارية مع إسرائيل

ويحذر أبو غوش من أن تراكم الشيكل في البنوك الفلسطينية دون إمكانية تحويله إلى البنك المركزي الإسرائيلي يُولد مخاطر متعددة بينها شلل في التعاملات التجارية مع إسرائيل، حيث أن عدم قدرة البنوك على تغذية حساباتها بالشيقل في إسرائيل يعيق تحويلات التجار، ما قد يدفعهم إلى التحايل عبر تحويل الأموال بطرق غير رسمية، وبالتالي الخروج من الاقتصاد الرسمي.  

ومن بين المخاطر وفق أبو غوش، انهيار الثقة في القطاع المصرفي، حيث أن السحب المحتمل للودائع بسبب عجز البنوك عن إدارة الفائض النقدي قد يُحدث أزمة سيولة تهدد استقرار القطاع بأكمله.  

ويشير أبو غوش إلى أن من بين المخاطر الأخرى هو تنمية السوق السوداء في صرف العملات، وبذلك إيجاد بدائل للتخلص من الشيكل والحصول على عملات أجنبية (كالدولار)، كي يتمكنوا من إتمام معاملاتهم التجارية مع الخارج.

وهناك خطر آخر، وفق أبو غوش، وهو تفشي الاقتصاد غير الرسمي حيث هناك لجوء للشركات إلى معاملات “تحت الطاولة” مع بعض الأطراف الإسرائيلية الأمر الذي سيُقلص إيرادات السلطة الفلسطينية من الضرائب والجمارك.    

حلول مرحلية وطويلة الأمد

ويلفت أبو غوش إلى أن إقرار قوانين في إسرائيل للحد من استخدام النقد إلا ضمن سقف أعلى معين دفع فئات للتخلص من النقد في السوق الفلسطينية بشكل غير مباشر ضخ فائض الشيكل إلى السوق الفلسطينية، إما عبر تصريف الشيكل إلى دولار أو شراء أصول مثل الأراضي والعقارات والذهب.

ويطرح أبو غوش حلولًا مرحلية وطويلة الأمد، منها تعزيز الاقتصاد الرقمي عبر تسريع التحول إلى الدفع الإلكتروني وتقليل الاعتماد على النقد، وتشريعات صارمة تواكب التطورات، وذلك بفرض سقوف على التعاملات النقدية الكبيرة ومكافحة غسيل الأموال، ومراجعة بروتوكول باريس من خلال الضغط على إسرائيل لرفع سقف التحويلات النقدية السنوية، وأن يكون على المدى البعيد عملة وطنية رغم صعوبة تحقيقها حالياً بسبب التعقيدات السياسية، أو على الأقل تقليل تداول الشيكل في قطاعات معينة بالتدريج.

ويحذر أبو غوش من أن استمرار الأزمة دون حلول سيُعمق تبعية الاقتصاد الفلسطيني ويهدد قدرة السلطة على توفير السيولة اللازمة بالعملة الصعبة، داعيًا إلى تكثيف الجهود بين البنوك والمؤسسات الرسمية لاحتواء التداعيات قبل تفاقمها، رغم أن البنوك الفلسطينية تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب تراكم مليارات الشواكل غير القابلة للتحويل، في وقت تشهد فيه الخزينة العامة عجزًا متصاعدًا جراء انخفاض الإيرادات وارتفاع التهرب الضريبي.

أزمة تراكمية برزت بعد العدوان الإسرائيلي على غزة

بدوره، يؤكد الخبير والمحلل الاقتصادي د. ثابت أبو الروس أن أزمة تكدس عملة الشيكل في المصارف الفلسطينية ليست وليدة اللحظة، بل هي أزمة تراكمية ظهرت بشكل لافت ما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث امتنعت سلطات الاحتلال عن استقبال كميات العملة الإسرائيلية الفائضة من السوق الفلسطينية.

ويوضح أبو الروس أن هناك محاولات تمت خلال العامين الماضيين من قبل الجانب الإسرائيلي لسحب بعض كميات الشيكل، لكنها لم تكن بالحجم الكافي لاستيعاب التراكم الحاصل، مشيراً إلى أن القدرة الاستيعابية لسلطة النقد الفلسطينية لا تتجاوز 3.8 إلى 4 مليارات شيكل، وبمجرد تجاوز هذه الكمية، لم تعد السلطة قادرة على استقبال المزيد، ما أدى إلى ترحيل الأزمة إلى البنوك التجارية.

ويشير أبو الروس إلى أن أبرز الأسباب المباشرة لتضخم حجم الشيكل في السوق الفلسطينية تتمثل في دخول كميات ضخمة من العملة من خلال العمال الفلسطينيين الذين يتقاضون أجورهم من الجانب الإسرائيلي، إلى جانب عمليات تجارة غير رسمية أو ما يعرف بـ”السوق السوداء”، حيث يدفع التجار الإسرائيليون قيمة بضائعهم نقداً بالشيكل في السوق الفلسطينية، ما يدفع التجار الفلسطينيين إلى إيداع هذه المبالغ في البنوك، وبالتالي تفاقم الأزمة.

مناطق تماس اقتصادي وتجاري مع الاحتلال

ويلفت أبو الروس إلى أن هناك مناطق تماس اقتصادي وتجاري مع الاحتلال مثل كفر عقب، وعناتا، وشعفاط، وترقوميا تشهد نشاطاً تجارياً كبيراً، يساهم في ضخ المزيد من الشيكل في السوق المحلية دون وجود قناة لتصريفه إلى الجانب الإسرائيلي، خصوصاً في ظل الامتناع الإسرائيلي عن استلام الفائض.

ويرى أبو الروس وجود إشكالية قانونية أخرى تتمثل في منع الاحتلال لحيازة أو تحويل أكثر من 10,500 شيكل نقداً، وهو ما يدفع التجار للجوء إلى السوق السوداء وتفادي الإجراءات البنكية الرسمية، الأمر الذي يفاقم من حدة الأزمة، ويساهم في تعقيد تداول النقد.

ويحذر أبو الروس من أن الأزمة انعكست بشكل مباشر على المواطنين والتجار، حيث باتت البنوك ترفض استلام مبالغ نقدية تتجاوز 5,000 شيكل، كما منعت إصدار دفاتر الشيكات، الأمر الذي أصاب عجلة الاقتصاد بالشلل.

ويلفت أبو الروس إلى أن البنوك، وهي مؤسسات ربحية بطبيعتها، أصبحت تتصرف بشكل منفرد بعد أن حملت سلطة النقد المسؤولية وتركت لها القرار في استقبال أو رفض إيداع الشيكل.

دور الاتحاد الأوروبي في تسهيل نقل النقد

ويؤكد أبو الروس أن استمرار هذه الأزمة قد يدفع الاقتصاد الفلسطيني للعودة إلى التعاملات النقدية اليدوية، بعيداً عن القنوات البنكية، ما قد يؤدي إلى اتساع رقعة التهرب الضريبي وتعزيز السوق السوداء، مشدداً على أن الوضع بات حساساً ويتطلب تدخلاً فورياً.

وفيما يتعلق بالحلول، يطالب أبو الروس السلطة الفلسطينية بتفعيل بنود اتفاقية باريس الاقتصادية، والتي تنص على التزام إسرائيل باستلام الفائض من الشيكل مقابل عمولة محددة، داعياً الاتحاد الأوروبي إلى استئناف دوره في تسهيل نقل النقد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

وعلى المستوى الدولي، يشدد أبو الروس على أهمية طرح هذه الأزمة أمام المؤسسات الدولية المعنية، باعتبار أن القيود الإسرائيلية تضر بالاقتصاد الفلسطيني بشكل مباشر.

ويوصي أبو الروس بضرورة قيام البنوك الفلسطينية بمراجعة سياساتها المالية، والبحث عن آليات دفع جديدة، وتوجيه المواطنين نحو التعامل بالشيكل بدل العملات الأجنبية مثل الدولار والدينار، مؤكداً أن الشيكل عملة غير قابلة للتحويل في الأسواق العالمية، مما يصعّب عملية التخلص من الفائض النقدي محلياً أو خارجياً.

معضلة بروتوكول باريس الاقتصادي

من جهته، يوضح الصحفي والإعلامي الاقتصادي طلعت علوي أن أزمة تكدس الشيكل في المصارف الفلسطينية ليست طارئة أو حديثة العهد، بل تعود إلى سنوات طويلة، بسبب عدم وجود خطط اقتصادية استراتيجية طويلة الأمد لتفادي تداعياتها، وغياب أي إجراءات تحوطية حقيقية، وهو ما أوصل البلاد إلى ما وصفه بـ”الشيكل الخامل”، بينما كانت الجهات المختصة تتذرع دوماً بتكاليف التخزين والنقل لعدم تفعيل استخدامها أو معالجتها.

ويشير علوي إلى أن بروتوكول باريس الاقتصادي، الموقع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، يعد أحد أسباب هذه المعضلة، حيث يكبّل الفلسطينيين بقيود تحدّ من مرونة الاقتصاد الوطني، خصوصاً في ما يتعلق بالتعامل بالشيكل.
ويلفت علوي إلى أن غياب الرؤية الاستراتيجية والاعتماد المتزايد على الاقتصاد الإسرائيلي، على عكس ما كانت الحكومات المتعاقبة تعلنه من خطط للانفكاك، فاقم من الأزمة.

ويؤكد علوي أن حجم حركة الشيكل في السوق الفلسطينية يبلغ سنوياً نحو 22 مليار شيكل، يتم تصريف حوالي 18 مليار شيكل منها عبر التجارة البينية مع إسرائيل، وشراء الكهرباء والمياه وغيرها من الاحتياجات، بينما يتبقى نحو 4 إلى 5 مليارات شيكل متكدسة داخل النظام المصرفي، وهو رقم ضخم يفوق القدرة الاستيعابية للكتلة النقدية المسموح بها في البنوك الفلسطينية.

ويتحدث علوي عن ما أسماه “الشيكل الخامل”، أي الفائض من العملة الإسرائيلية العالق في خزائن البنوك دون إمكانية تصريفه أو إرجاعه إلى مصدره، مؤكداً أن هذه الأزمة تعرقل السيولة المصرفية وتشكل خطراً على النظام المالي، خاصة مع غياب أدوات تحكم واضحة من قبل سلطة النقد، وضعف تجاوب البنوك التي باتت عاجزة عن التعامل مع هذه الكتلة النقدية الضخمة.

قيود وسقوف على عمليات الإيداع

ويشير علوي إلى أن القطاع المصرفي، رغم صموده أمام التحديات والحروب، لا يمكنه مواصلة العمل بشكل سليم في ظل هذه الأزمة، مؤكداً أن البنوك أصبحت تفرض قيوداً وسقوفاً على عمليات الإيداع، ورفضت استقبال كميات من الشيكل، ما ينعكس سلباً على المواطنين والتجار على حد سواء.

ويوضح علوي أن بعض البنوك لا تلتزم بتعليمات سلطة النقد، لعدم وجود أفق واضح لتصريف هذه الأموال الناتجة عن المدفوعات المتعلقة بالتجارة ومعاشات العمال، رغم تراجع أعدادهم حالياً إلى أقل من 20 ألف عامل.

ويشدد علوي على أهمية عدم إغفال الدور الذي تلعبه المشتريات من الداخل المحتل ومن القدس، حيث تُعد العملة الوحيدة المعتمدة في تلك المناطق هي الشيكل، وغالباً ما يتم الدفع في أسواق الضفة الغربية نقداً وليس عبر البطاقات البنكية، ما يزيد من حدة الأزمة ويضعف فاعلية حلول مثل الدفع الإلكتروني، رغم أنها قدمت بعض الدعم في قطاع غزة.

ويرى علوي أن الحكومات المتعاقبة فشلت في صياغة سياسة اقتصادية واضحة تقلل من الاعتماد على الشيكل والاقتصاد الإسرائيلي، داعياً إلى تعزيز الشمول المالي، وتوسيع استخدام العملات الأخرى كالدينار الأردني والدولار الأمريكي، ودعم الصناعة الوطنية كوسيلة للخروج التدريجي من هذا المأزق.

ويؤكد علوي أن المشكلة قد لا تنتهي بالكامل، لكنها كانت ستصبح أقل حدة وأكثر قابلية للمعالجة لو تم تبني سياسات رشيدة منذ البداية.

عبء ثقيل على الجهاز المصرفي الفلسطيني

الخبير المالي والاقتصادي وأستاذ العلوم المحاسبية في جامعة النجاح الوطنية، د. سامح العطعوط، يؤكد أن أزمة تكدس عملة الشيكل في البنوك الفلسطينية وصلت إلى مستوى حرج، وأصبحت تمثل عبئًا ثقيلاً على الجهاز المصرفي الفلسطيني، نتيجة أسباب متراكمة أبرزها عدم التزام البنوك الإسرائيلية باستلام فائض الشيكل كما تنص عليه اتفاقية باريس الاقتصادية.

ويشير العطعوط إلى أن حجم السيولة النقدية من الشيكل في السوق الفلسطينية ارتفع بشكل كبير بفعل عدة عوامل، منها التجارة النشطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، إضافة إلى دخول كميات ضخمة من الشيكل إلى الضفة الغربية من قبل الفلسطينيين القادمين من الداخل، وكذلك العمال الفلسطينيين العاملين داخل الخط الأخضر، رغم انخفاض أعدادهم في الآونة الأخيرة.

ووفق العطعوط، تُسهم هذه التدفقات في إعادة تسويق الشيكل ضمن الاقتصاد الفلسطيني، ما يضاعف من حجم الكتلة النقدية المتداولة.

ويؤكد العطعوط أن استمرار هذه الحالة أجبر البنوك الفلسطينية على فرض سقوف لاستقبال الشيكل من الأفراد والشركات، بعد أن أصبحت عاجزة عن استيعاب المزيد من النقد بهذه العملة، في ظل التكاليف الكبيرة المرتبطة بتخزينها وتأمينها.

ويؤكد العطعوط أن حل الأزمة لا يمكن أن يكون فنياً أو تقنياً فقط، بل يتطلب تدخلاً سياسياً حاسماً، لأن إسرائيل، باعتبار الشيكل عملتها، ملزمة باستلامه، وبالتالي فإن الحل الوحيد والجذري لهذه المشكلة يجب أن يكون عبر مسار سياسي يفرض الالتزام بالاتفاقيات الموقعة ويضمن استقرار النظام المالي الفلسطيني.

المصدر / جريدة القدس

مشاركات مماثلة