المقاومة في مواجهة الاغتيال

[[{“value”:”

لم يكن اغتيال القيادي الفلسطيني، إسماعيل هنيّة، حدثاً عارضاً، وإنّما هو مواصلة لسياسة رسمية صهيونية تُشكّل جزءاً من العقيدة العسكرية لهذا الكيان منذ تأسيسه. وتكشف سلسلة الاغتيالات التي استهدفت قياداتٍ عسكريةً وسياسيةً فلسطينيةً من فصائلَ مختلفةٍ، وذات توجّهاتٍ ومشاربَ أيديولوجيةٍ متنوّعةٍ من وتيرة متشابهة تحكم هذه العمليات المدروسة، التي تهدف إلى غايات مُحدَّدة، يتصور قادة الكيان الصهيوني أنّ بإمكانهم تحقيقها عبر سياسة الاغتيال المُمنهجة.

تضمُّ قائمة من اغتالهم الصهاينة شخصيات مُهمّة، أمثال خليل الوزير (أبو جهاد) من حركة فتح، وأبو علي مصطفى من الجبهة الشعبية، وعبد العزيز الرنتيسي وأحمد ياسين من حركة حماس، وفتحي الشقاقي من حركة الجهاد الإسلامي، وعباس الموسوي من حزب الله، وكان الغرض من هذه العمليات مزدوجاً.

فمن ناحية، كان المطلوب ضرب البنية التنظيمية لحركات المقاومة، خاصّة في ظلّ الاعتقاد أنّ هذه التنظيمات تتمركز حول شخصيات محورية تتولَّى التسيير التنظيمي لتلك الحركات، وضبط عناصرها. ومن ناحية أخرى، اعتقد الصهاينة أنّ بإمكانهم إعادة تشكيل هذه التنظيمات عبر اغتيال من تعتقد أنّهم قياداتٌ مُتشدِّدةٌ، وهو ما يفسح المجال لصعود شخصيات قابلة للتدجين والقبول بما يفرضه الاحتلال.

ولا يمكن إنكار أثر عمليات الاغتيال في إضعاف بعض التنظيمات الفلسطينية، فاغتيال شخصيات بوزن أبو جهاد وأبو إياد كان حاسماً في قبول “فتح”، ومن ورائها منظّمة التحرير، اتفاقيات أوسلو (1993)، وفي مرحلة لاحقة، كان التخلّص من الرئيس ياسر عرفات مدخلاً ضرورياً لبناء سلطةٍ فلسطينيةٍ متعاونةٍ مع الاحتلال في الضفّة الغربية، ترفع شعار التخلّي عن المقاومة المسلّحة.

غير أن الحقائق في الأرض تفرض على المراقبين التشكيك في مدى نجاعة سياسة الاغتيال الصهيوني، بوصفها أداةً للردع والتأثير، فحركات المقاومة تفطَّنت إلى أهمّية وجود بنيةٍ ثابتةٍ تخضع لمؤسّسات سياسية وعسكرية خارج النفوذ الكارزمي للشخصيات القيادية والمُؤسّسة.

لقد فتحت اغتيالات ياسين والرنتيسي وهنيّة البابَ لصعود قياداتٍ جديدةٍ في حركة حماس، شخصيات حذرة تميل إلى العمل تحت الأرض، وتبني أجهزةً عسكريةً وأمنيةً عصيةً على الاختراق، وهكذا ظهر يحيى السنوار، ومحمّد الضيف، في “حماس”، وكذلك ظهرت قيادات أخرى في حركة الجهاد خلفاً لفتحي الشقاقي، وهو ما ينطبق على حزب الله، إذ جاء صعود حسن نصر الله خلفاً لعبّاس الموسوي، لتستمر عمليات المقاومة من خلال صمود بنيتها التنظيمية والسياسية، التي لم تتضرَّر من سلسلة الاغتيال بقدر ما استفادت منها في مزيد من التلاحم مع الشارع الوطني، وتحوّل هؤلاء القادة رموزاً وطنيةً للبذل والعطاء، فقيادات المقاومة تُختار من بين الحديد والنار، وليست شخصيات سياسية تُنصَّب من دون خلفيةٍ نضاليةٍ حقيقيةٍ.

استفاد الكيان الصهيوني من سياسة الإفلات من العقاب التي ينتهجها المجتمع الدولي إزاءه، وهو ما يعني السماحَ له بالاستمرار في التصفيات الجسدية والاعتقال والتعذيب خارج القانون، وهو ما مثَّل وصمةَ عارٍ في جبين المجتمع الدولي، الذي لا يتأخر في إدانة عمليات المقاومة، ولكنّه يُصابُ بالعمى والخرس عند التعامل مع جرائم الاحتلال الصهيوني.

والكيان الصهيوني ليس الدولة الكولونيالية الوحيدة التي اعتمدت سياسة الاغتيال في مواجهة المقاومة، والتاريخُ حافلٌ بأمثلة لدولٍ استعماريةٍ مارست الاغتيالَ ضدّ خصومها، واعتمدت أبشع الوسائل والأساليب لإطالة أمد احتلالها للأرض.

وفي نموذج الثورة الجزائرية عمدت فرنسا إلى اغتيال قيادات كُبرى في جبهة التحرير الوطني، ويمكن أن نذكر في هذا السياق اغتيال كلٍّ من العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد وديدوش مراد، غير أنّ ما أثبتته الأحداث أنّ هذه الاغتيالات لم تقضِ على المقاومة الجزائرية، ولم تُطلْ عمر الاختلال الفرنسي، الذي رحل تحت وطأة ضربات المقاومة.

يدرك القادة الصهاينة أنّ سياسة الاغتيالات لن تُغيّر الموقفَ السياسي أو العسكري للمقاومة، بقدر ما هي رسائلُ موجَّهةٌ إلى الداخل الصهيوني المأزوم، الذي يعاني حالةً من الشعور بالهزيمة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، فالحاجة النفسية لاستعادة التماسك الداخلي في ظلّ الانقسام الذي يشقُّ المجتمع الصهيوني هي الدافع المركزي لمثل هذه العمليات، ولإثبات أنّ الكيان ما زال متفوّقاً في قدراته الاستخباراتية والعسكرية، بعد الفشل الواضح في منع عمليات المقاومة، وتراجع سردية الجيش الذي لا يقهر، صاحب اليد الطويلة القادرة على ضرب العدوّ بشكل استباقي. غير أنّه مهما بُولِغَ في الجانب الاستعراضي لعمليات الاغتيال، تظلّ الحقيقةُ قائمةً، وهي عجز الجيش الصهيوني عن تحقيق أيّ هدفٍ من أهداف عدوانه على غزّة، وأنّ المقاومة مستمرّة بشكل أكثر عنفواناً وقوَّة.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة