ليست الثقافةُ قلادةَ زينة، ولا كلماتٍ ملونةً، وعبارات غارقة في المجاز الذي يلفت الانتباه لذاته، إنّما هي حفر عميق عن الحُرية، والحقيقة، والجمال، والعدل، والاستقامة حتى الينابيع البعيدة، دون كلل ولا ملل، أو هي جدار يصُدّ عن المجتمع رياحًا سامّة، تريد أن تسكن الرؤوس فتجبرها على الخمود والجمود والقعود. إنّها صرخة ضد البلادة، والقهر، والإكراه، والقبح، والتفاوت، والتظالم، والقسوة، والإفقار، والإذلال، وهي قارب نجاة يجب أن يبحر براكبيه نحو عالم أفضلَ.
إنَّ المثقّف- في بلاد لا تزال تعاني نقصًا في الحريّة، والعدل، والتقدم، أو تلك التي ترسُف في أغلال الاحتلال أو الاستبداد- عليه واجب التمرّد على الاستعباد، ورفض ما هو سائد ومتاح ومقدّر من قِبل أي قوَّة تشدّ عربة الناس إلى الوراء. ومَن يكتفِ بين المثقّفين بالقول البارد، والكتابة المحايدة، المجرّدة من المعنى، والساعية إلى التغيير، فهو كمن يترك النارَ تشتعل في البيت، ثم ينشغل بمطاردة الفئران الهاربة من اللهب.
لهذا، لم يكن من الطبيعي والمستساغ والهيّن أن يقف مثقّفو العرب صامتين، حيال العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي تردّى إلى أن يصير “إبادة جماعية” بكل ما تعرفه أشكالها من أفعال وتدابير، ومن عبارات وصور وحكايات مسكونة بالدم والنار والألم، علاوة على تاريخ طويل من “الفصل العنصريّ”.
مقاومة مشروعة
ألفا مثقّف وقّعوا بيانًا- قاطع العبارات، وواضح المطالب، وجليّ المسارات- يدينون فيه العدوان، ويدعمون فيه أهل غزة، ويرفضون وصم الفلسطينيين- الذين يكافحون ويناضلون من أجل تقرير مصيرهم- بالإرهاب، بل أعطوا أفعالهم الاسم الحقيقيّ، الذي يليق بها، ويقرّه تاريخ الصراع، والأحكام العقليّة الراجحة، وما تجود به الضمائر الحيّة، وما ينصّ عليه القانون الدولي، وهي أنّها “مقاومة مشروعة” لها الحقّ الذي “كفلته كل شريعة وأقرّه كلّ قانون واطمأنّ به كلّ عُرف”، ولذا يجب احتضانها، ومساندتها حتى تحقّق أهدافها الكبرى.
في المقابل وصف البيانُ إسرائيل بأنّها تمثّل “طلائع الاستعمار والفاشية والعنصرية”، وأنّها “تكره البراءة فتقتل الأطفال، وتكره الحقيقة فتقتل الصحافيين، وتكره الطبيعة فتجرّف أشجار الزيتون”، بل زاد على هذا فرآها “دولة مسلّحة” تشجّع العنف الضاري، وتجور على الحقوق، وتمارس السلب المتواصل عبر “توسيع سرطان الاستيطان” على حساب أرض الفلسطينيين المزروعة وبيوتهم وحدود مدنهم وقراهم ومخيماتهم، وتمارس فصلًا عنصريًا وتطهيرًا عِرقيًا، لتحقّق “الكذبة السافرة التي قام عليها المشروع الصهيونيّ، وهي أنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرضٍ”.
وحمل البيان رسائلَ أخرى مهمّة، الأولى: وهي غاية في الأهمية، ألا ننظر إلى الحرب على غزّة، باعتبارها شيئًا منبتَّ الصلة بما قبله، فهي حلقة في سلسلة طويلة من كفاح الشعب الفلسطينيّ، في سبيل نيل حقوقه، التي تمّ إهدارها على مدار ثلاثة أرباع القرن بل يزيد، فقال هنا: “على مدار 75 عامًا، لم يترك الكيان المحتل قيمة أخلاقية إلا انتهكها، ولا مبدأ حضاريًا إلا خرقه، ولا قداسة إنسانية إلا داسها بأحذية جنوده”. وبذا يكون ما حدث في 7 أكتوبر، في نظر هؤلاء المثقّفين، صرخةً ضد الظلم، ويقظة ضد التفريط، وانفجارًا ضد اليأس، بل هو طموح مشروع لتحقيق غاية نبيلة، وهو رفض الظلم الطويل، والكفاح من أجل نيل الحقوق الفلسطينية المهضومة.
والرّسالة الثانية: هي موجّهة للعرب: حكوماتٍ ومنظمات وشعوبٍ وأفرادٍ، بأن ينهضوا، دون كسل ولا وَجل، ليدعموا الفلسطينيين، ماديًا ومعنويًا، وأن يواصلوا العمل في هذا الاتجاه، دون أن ينصرف عنهم الانشغال بالقضية الفلسطينية، أو تبرد هممهم في نصرتها، أو يتركوا الفلسطينيين وحدَهم ليدافعوا عن شرف الأمة واقتدارها.
أمّا الثالثة: فموجّهة إلى كلّ مثقّفي الغرب، من أصحاب الضمائر اليقظة، والأفكار النيّرة التي تروم الحرية والتقدم، وتدرك الجسور التي تصنع “المشترك الإنساني”، وتفهم أن الثقافة الحقيقية تفرض على صاحبها أن يدين الجلّاد، ويقف إلى جانب الضحية، وأن يتّسق مع نفسه حين ينادي بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويخرج من عار ازدواجيّة الرؤية، والكيل بمكيالَين.
والرابعة: هي التفرقة التي لا لبس فيها بين السلام والاستسلام، إذ “لا سلام بلا حرية، ولا سلام بلا عدالة، ولا سلام بلا حقيقة”. فبدون هذا يكون السلام كلامًا فارغًا، أو مجرّد كسب وقت لتمكين المعتدي من أن يحقق أهدافه غير المشروعة بالقتل والتدمير واحتقار الآخر، واستحلال ماله وعرضه ودمه.
والخامسة، وَفق البيان المهم: هي رفض التطبيع مع إسرائيل؛ إذ لا يمكن أن تقوم علاقة طبيعية مع قوّة ظالمة قاهرة، لا ترى في التطبيع هذا سوى أنه وسيلة لتثبيط الهمم، وتفريغ العقول، وملء النفوس بالبلادة، التي لا تجعل أصحابها يمارسون الغضب النبيل المشروع ضد التمييز والقهر والسلب، وانتهاك المقدسات.
بسواعد المقاومة
ما يعطي هذا البيانَ قيمة كبرى أنّه جاء في وقت صار فيه اسم فلسطين نفسه مغيبًا عن عمد، إذ إنَّ ما عرضوه من خرائط تحت ما يسمّى “الشرق أوسط الجديد”، خلا من اسم فلسطين، فكان يجب أن يعود- بسواعد المقاومة، ودم الأطفال والنساء، وحبر الكتابة العربية- إلى موقعه الطبيعي في مركز الخطاب السياسي والثقافي الراهن.
كما جاء البيان متساوقًا مع نبض الجماهير الغفيرة- ليس في العالم العربي فقط، بل في العالم كلّه أيضًا- التي خرجت غاضبة لإبادة الشعب الفلسطينيّ. وبذا عاد المثقف العربي، في الملّمات والمحن، ليمارس دوره الطليعي، غير منفصل عن الناس بأي دعاوى تسللت إلى قلب الثقافة العربية في العقود الأخيرة، كي تجعلها منزوعة النضال؛ إمّا بزعم موت السرديات الكبرى، أو غلبة الشكل على المضمون، أو الالتفات إلى الجمال دون المعنى، والاحتفال دون الأثر، والمظهر دون الجوهر.
بدا البيان شمسًا عفيّة حجب نورَها الغامر تلك الأصواتُ المعزولة والمنبوذة التي غفل أصحابها عمدًا تاريخ الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيلي الطويل، أو لم يفرّقوا بين المقاومة والإرهاب، أو نقلوا صراعاتهم الداخليّة مع التيارات السياسية الإسلامية المتطرّفة إلى الساحة الفلسطينية، ليصنّفوا المقاومة تصنيفًا يجرّدها من القيمة والاستحقاق والمشروعيّة، أو راحوا يثبّطون همم المقاتلين بما ترتكبه إسرائيل من مجازرَ وحشية في غزة ضدّ المدنيين العزّل.
فشل كل المساعي
إنّ هذا البيان- سواء في مضمونه أو قيمة الأسماء التي وقّعت عليه وتنوعها، وتوزّعها بين مختلف الأقطار العربية- قدَّم دليلًا قاطعًا، وبرهانًا ناصعًا، على فشل كل المساعي الحثيثة التي بُذلت، والأموال الطائلة التي رصُدت، من قِبل إسرائيل ومن يجارونها أو يعملون لها، في العقود الأخيرة، من أجل نزع روح المقاومة والنضال والرفض والتمرّد والمشاكسة والمغايرة عن الثقافة العربية برمّتها، وإزاحة القضية الفلسطينية من المركز الملتهب إلى الهامش البارد، والاستسلام لفرض إسرائيل الأمرَ الواقع على العرب، فلا دولة واحدة تضمّ الفلسطينيين والإسرائيليين وَفق مبدأ “المواطنة”، ولا حتّى حلّ الدولتين الذي ينتهي للفلسطينيين بقَبول خُمس أرض بلادهم التاريخية، إنما رغبة جَهنّمية مفضوحة لاقتلاع أهل غزة والضفة الغربية من أرضهم الباقية، وتهجيرهم إلى دول مجاورة.
ربما تمثّل الأسماء الموقعة على البيان ذِروة الثقافة العربية في زماننا، لكنني واثق من أنّ هذا البيان المفتوح أمام آخرين لينضموا إليه، سيتمكّن في قابل الأيام من جذب عشرات الآلاف من المثقّفين والمفكّرين والباحثين الثقات، لينضمّوا إليه، ممّن راق لهم ما جاء فيه، وتفاعلوا معه ولو عن بُعد، وسألوا عن كيفية وضع أسمائهم عليه، وروّجوا له عبر الإعلام التقليديّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ على حدّ سواء.
إنّني أعتقد أنّ هذه الصرخةَ، أو تلك الوقفة، ستُؤتي أكُلها أكثر، حين يشرع كل هؤلاء في إخراج أقلامهم من أغمادها، ليدافعوا عن القضية الفلسطينية، بالكلمات والرسومات، وبالنصّ الجميل والكلمة الحُرة، وهو مكسب كبير لهذه القضية التي حملتها الثقافة العربية على أكتافها جيلًا بعد جيل.