[[{“value”:”
تسعة أشهر عبرت على سكان قطاع غزة وهم بلا كهرباء، وبلا وقود يسهم في تشغيل مولدات الطاقة، التي تزود الناس بالكهرباء، فإذا أضيف إلى كل ما سبق استهداف الصواريخ الإسرائيلية للطاقة البديلة، وتهشيم لوحات الطاقة الشمسية، فالنتيجة هي عتمة فاقعة اللون، عتمة تضرب أطنابها بين الخيام، وعلى ما تبقى من بيوت نصف مدمرة، ولكنها شامخة، وهي تحاكي شموخ أهل غزة، وهم يتناغمون مع القمر العاشر في السماء، يراقبونه بإجلال، يتأملون عظمة الكون مع استدارته، ويفرحون لطلته، وعيونهم تضيء بالأمل، وقلوبهم مجروحة بالحنين.
الشوارع المهجورة
ويتألق قمر غزة مع كل مساء، ويتأنق حين تتساقط العتمة على بقايا الشوارع المهجورة، وعلى ساكني الخيام الهاجعة، وهم بلا وسائل اتصال حديثة، وبلا مشاهدة للفضائيات، وبلا قدرة على متابعة الأحداث، ومعرفة المستجدات الميدانية، في تلك اللحظة من الانقطاع عن العالم، ينظر أهل غزة إلى السماء، فيراهم القمر، إنه رفيق دربهم، وصديق غربتهم، ويضيء لهم المسافة الفاصلة بين خيمة الهجرة سنة 1948، وخيمة النزوح سنة 2024، وشتان ما بين خيمتين متشابهتين في الصناعة، مختلفتين في النتائج، فخيمة الهجرة لفها ضباب الغدر والخيانة والخذلان، بينما خيمة النزوح يضيئها رجال المقاومة بقذائفهم، وهم يرقبون قمر المستقبل، الذي ارتسمت معالمه حرية وكرامة، تنبض في عروق القضية الفلسطينية، وتنطق الفصحى السياسية بلسان شعب عربي أبيٍّ عنيد.
الإضاءة الصناعية
قمر غزة في الشهر العاشر من المقاومة أكبر من كل الأقمار الهادئة والمستكينة التي تجوب سماء البلاد العربية، قمر غزة تلتفت إليه الأنظار، لذلك صغرت دونه الأقمار، فقمر غزة يعيش تفاصيله أكثر من مليوني إنسان، يتعاطف معهم مئات ملايين البشر، بينما الأقمار الأخرى في بلاد الدنيا، قد صار لونها باهتاً، وصار حضورها غائباً، بعد أن طغت الإضاءة الصناعية، والمشاهد الزائفة، وسيطر التلفيق الصهيوني على مجال الرؤية الواسع للكثير من السياسيين، وأظلمت الرؤى في عيون قادة النظام الدولي الذي يدور في الفلك الصهيوني.
عيون الثكالى
قمر غزة يمشط بأصابعه شوارع العتمة، ويضيء الطرقات، ويتسلل بأنفاسه من ثقوب الخيام، التي اخترقها الرصاص الإسرائيلي، فيقدم التحية للنازحين، ويشد من أزر الجائعين، يواسي الجريح، ويهدهد الطفولة، ويمسح الدموع من عيون الثكالى، ليصير قمر غزة حكايات بطولة بطول الأرض وعرض البحر، الذي ابتلع ضوء القمر، ليعطي لأهل غزة فسحة من السكينة والسمر، ويتركهم يكتشفون قدراتهم، وهم يتلمسون داخلهم، ويتعرفون على حقيقة الناس من حولهم، وأبصارهم شاخصة في القمر، يرونه في العتمة، وكأنهم يرون أنفسهم، ويكتشفون ذاتهم، وقدرتهم على الصبر والتألق كالقمر، الذي يطل عليهم في محنتهم للمرة العاشرة منذ العدوان الإسرائيلي.
القمر العاشر في سماء غزة أكثر إضاءة، وأكثر وضوحاً من الأقمار التسعة السابقة، وأكثر اقتراباً من واقع غزة وأهلها، القمر العاشر يناجي أهل غزة حيناً، ويتحدث معهم بصوت جليّ أحياناً، ويحدثهم عن الغد المشرق، ويحثهم على الصبر والصمود، وأن الإنسان هو الذي ينتصر في المعركة، وليس السلاح، وأن إرادة الشعوب لا تقهرها الأسلحة الغربية، ولا العصابات الصهيونية، قمر غزة يقبّل جبين المقاومين، يحرضهم على القتال، ويبرق لهم في الدهاليز، وهم ينصبون الكمائن العسكرية، ويصطادون جنود العدو ودباباته، ويعدهم بالنصر مع الصبر، ويعدهم بالحرية المقترنة بالتضحيات.
ميلاد مستقبل جديد
القمر العاشر يتألق في سماء غزة بعد أن صار معظم أهل غزة نازحين، وصارت الخيام مأوى للملايين، فبعد الهجوم على رفح، عم الخراب والدمار الإسرائيلي في كل مكان، وتغلغل الوجع إلى مفاصل الجسد الفلسطيني، وراح يدق على أبواب الحرية، وكأن الشعب الفلسطيني ينتظر لحظة الميلاد بعد تسعة أشهر من الحمل والانتظار، لقد أطل عليهم القمر العاشر، مبشراً بقرب ساعة الميلاد، ميلاد مستقبل جديد لأهل غزة، ولكل فلسطين، ولاسيما بعد أن تعمقت الخلافات داخل المجتمع الإسرائيلي، وبعد الانكسار البائن للجيش الذي قُهر على بوابات غزة، وعجز عن إجهاض المقاومة في الشهر الأول من الحمل، ومع القمر العاشر يتسع الخلاف بين المستوى العسكري الإسرائيلي الذي يعترف بالفشل والهزيمة، وبين المستوى السياسي الإسرائيلي الذي يكابر، ويرفض الاعتراف بالهزيمة، وتحمل نتائجها الكارثية على وجودهم.
القمر العاشر في سماء غزة يشق دربه فوق توجع الركام، وتحت أنين الخيام، ومن بين سحب الدخان، ليعلو فوق هدير الدبابات ودوي القصف، إنه القمر العاشر الذي يتجلى في سماء غزة بكامل هيبته، وبكامل البهاء، إنه القمر المتألق المتأنق، المبتسم لأهل غزة، وهو يحمل لهم البشائر، ويمسح من عيونهم دموع القلق والانتظار، وينقش معالم المستقبل على جبين الأطفال، مستقبل بانت معالمه مع تضحيات الأبطال.
“}]]