الغُرم الإسرائيليّ.. كُلفة العدوان على غزّة

ما إن توسَّطت شمسُ يوم السّابع من أكتوبر صفحةَ السماء، حتى خرجَ محلّل إسرائيلي لقناة “24” الإسرائيلية الناطقة بالفرنسيّة ليقول: “إسرائيل هُزمت في هذه المعركة منذ البداية، حجمُ الإخفاقات كبيرٌ، وعلى كافة الصُّعد، فإسرائيل، بعد ستّ ساعات من بدء الهجوم، لم تتمكن من السيطرة على الوضع. أشعر بالخجل الشديد من الصور التي تبثّها حركة حماس”.

هذا الوصف لم يجافِ الحقيقة، إنما عبّر عنها لأوّل وهلة، فيما تكفّلت المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بعد ذلك بالتعمية عليها، على قدر الاستطاعة، في البداية باختلاق سرديّة مغايرة لما أعلنتها “حماس”، ثم بخطاب سياسي حادّ مشحون بالتهديد والوعيد، أتبعه استثمار ردود أفعال دولية سوّقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي سقطَ ما جرى على رأسه كصخرة هائلة؛ باعتبار هذه الردود مكسبًا هائلًا يجب أن يُبنى عليه، وإفهام الإسرائيليين أنّ الأساطيل الغربية التي جاءت إلى شرق البحر المتوسط هي لحمايتهم، التي أخفق جيشُهم في تحقيقها.

خسارة إسرائيل
في الهجوم المباغت للمقاومة الفلسطينية خسرت إسرائيل أربعة أشياء دفعة واحدة، هي:

1 – الفشل الاستخباراتي: إذ إنّ عملاء إسرائيل في غزة، لم يصل إليهم نبأ ما تعدّه المقاومة، على مدار سنة كاملة، وربما أكثر، حسبما رشَح من بعض تصريحات قادتها أثناء جريان الحرب. وفي هذا انكشافٌ جارح لجهاز “الموساد” الذي يسوّق لنفسه قدرة فائقة في جمع المعلومات وتحليلها، وتمكين الجيش الإسرائيليّ من الاستباق.

2 – الحدود المستباحة: فالجدار العازل- الذي بُني حول قطاع غزّة، وبلغت كلفته مليار دولار- لم يمنع المقاومين من خرقه، بعد ضربه في نقاط محدّدة، مكّنت المقاومين من العبور السهل إلى مستوطنات غِلاف غزة، والسيطرة عليها في ساعات محدودة. ورغم أنّ هذه الأسوار المحيطة بغزة مزوّدة بأحدث أنواع الرقابة- وفي مطلعها الكاميرات فائقة القدرة- فإنّها لم تغنِ عن إسرائيل شيئًا، بعد أن تمكّن المقاومون من تعطيلها إلكترونيًا، قبل بدء الهجوم.

3 – فقدان التحكُّم والسيطرة: فبعد عبور المقاومين الحدودَ تمكّنوا من التمدّد غربًا وشمالًا، إلى درجة الاستيلاء على مساحة مضاعفة للقطاع، دون أن يجدوا ما يصدّهم ويردّهم في البداية. وكان هذا مفاجئًا حتى للمقاومة نفسِها، لدرجة أن يقول موسى أبو مرزوق، أحد قادة المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في تصريح له: “لو كنّا نعلم أنّ الجيش الإسرائيلي بهذا الضعف، لدفعنا آلاف المقاومين يستولون على الأرض، حتى يبلغوا تل أبيب نفسها”.

4 ـ بطء ردّ الفعل وإخفاقه: فبعد أن وصل نبأ الهجوم إلى القيادة السياسيّة الإسرائيلية، أعطت أوامرها على الفور للجيش أن يتقدّم ليعوّض انهيار فرقة غزّة، لكن التحرك جاء بطيئًا، ولم ينجُ أيضًا من الارتباك والذعر الذي أصاب العسكريّين الإسرائيليين، إثر تأكّدهم من الهزيمة الخاطفة التي حلّت بقوّاتهم في ساعات قليلة.

وبعد أن لملمت إسرائيل قواها المبعثرة، وراحت تقصف غزة بوحشية، وتتأهب لمعركة برية، فإنّ آثار الهزيمة المباغتة، ظلّت تسري في أوصالها، سواء على مستوى الخطاب أو التدابير. بدأ هذا التأثير بتردّد أو تلكّؤ في الهجوم البري الكاسح، ثم الاستعاضة عنه بما أسمتها إسرائيل “عملية برية نوعية”، ما إن بدأت حتى بدأت الخسائر على الأرض تتوالى دون انقطاع.

الاعتراف بالهزيمة إسرائيليا
وإذا حدّثت أحدًا نفسُه بتكذيب ما تبثّه المقاومة الفلسطينية عن خسائر إسرائيل، فإنّ الإنصات إلى وسائل الإعلام في تل أبيب- ورغم فرض الرقابة عليها- يبيّن كيف أنّ الغزو البري لم يكن عملية سهلة، ما حدا بأحد المحللين- الذين يعبّرون دومًا عن موقف الجيش الإسرائيلي- إلى القول، بعد شهر كامل من الحرب: “لم يخرج أحد من المقاتلين في غزة رافعًا الراية البيضاء، ولم يتهاونوا في القتال، بل يقاتلون بشراسة، وخسارتنا تتواصل في الأفراد والمعدّات”.

تواكب مع هذا مظهرٌ آخر لتعثّر إسرائيل، يتمثّل في تراجع الأهداف من السيطرة الكاملة على قطاع غزة، بغية اجتثاث “حماس”، بل فصائل المقاومة جميعًا، من جذورها، وإعادة الأسرى- دون خضوع لشرط المقاومة وهو الإفراج عن نحو سبعة آلاف أسير في السجون الإسرائيليّة- إلى مجرّد قتل يحيى السنوار رئيس المكتب السياسيّ لـ “حماس” في غزة، وتدمير بعض الأنفاق التي يحتمي بها المقاومون.

وإذا كان هناك هدف خفي لإسرائيل، -هو إجبار أهل قطاع غزّة على الهروب نحو سيناءَ- فإنّ هذا الهدف لا يزال يقابل بعراقيل، تتمثّل في تشبّث الغزاويين بأرضهم، ورفض عربي ودولي لهذا الخيار، وغضب شعبي حتى في الغرب نفسه من مسار التهجير، وقبله الإبادة الجماعية.

فضلًا عن هذا فإنّ إسرائيل نفسها تعاني، الآن، من وطأة هذا المسار، إذ نزح أكثر من مليون إسرائيلي من غِلاف غزة، ومن شمال إسرائيل بمحاذاة الحدود اللبنانية، وهم يسكنون الآن بيوتًا وفنادق وخيامًا مؤقتة، بينما يقال: إنّ الآلاف من الإسرائيليين حاملي الجنسيات الأخرى قد غادروها، بينهم الذين لا ينوون الرجوع إليها مرّة أخرى.

وإذا كانت إسرائيل قد تمكّنت من الدخول الحذر إلى القطاع، من الأرض الرخوة في الشرق، وساحل البحر في الغرب، ثم الالتفاف على شمال القطاع لعزله عن وسطه وجنوبه، فإنّ القوات الإسرائيلية الغازية لم تتمكّن، إلى الآن- ولا يبدو أنّ هذا سيحدث في قابل الأيام- من التمركز الدائم، في ظلّ الضربات المتوالية التي تتلقّاها على أيدي رجال المقاومة، وتكبُّدها خسائر ملموسة في الأفراد والمعدات كل يوم. وهنا لا يمكن للجيش الإسرائيلي- مهما كان عدد القوات وعدتها التي يدفعها إلى القطاع- تفادي كلفة حرب العصابات التي تشنّها المقاومة، والتي أرهقت جيوشًا نظاميّة أقوى من الجيش الإسرائيلي، وصارت نتائجها معروفة للقاصي والداني.

وقد وضعت الحرب أوزارها
الآن يمكن القول: إنّ الحرب إذا وضعت أوزارها دون اجتثاث المقاومة وإجبار أهل قطاع غزة على الفرار، فستكون إسرائيل قد خسرت ثلاثة أشياء، من الصعب تعويضها فيما بعد، وهي:

1 – اهتزاز معادلة “الجيش الحامي”: فإسرائيل جيش حوله مجتمع، والأخير يعتمد تمامًا على الأول في بقائه. وعلى مدار 75 عامًا تعامل الإسرائيليون مع جيشهم على أنه لا يُقهر، وبذا فإنّ دولتهم آمنة ومستقرة. وهذه الفكرة التي تمّ تسويقها على نطاق واسع، طالما ساهمت في قدوم كثير من اليهود إلى إسرائيل. لم تعد هذه المعادلة على حالها، مهما كانت نتائج الحرب. فإسرائيل اعتادت الحرب خارج أرضِها، وأبقت حدودَها آمنة، فلا تكون للمعارك وطأة شديدة على الشعب، لكن عملية “طوفان الأقصى” كانت في مدن إسرائيل ومستوطناتها، ليس من خلال الصواريخ هذه المرّة، إنما عبر الاقتحام والضرب في العمق، أو الحرب على أرض العدوّ.

2 – جرح الصورة الناصعة: فقد صنعت إسرائيل لنفسها صورة سوّقتها عالميًا على أنها حَمَل وديع بين قطعان من الذئاب، وأنّها دولة ديمقراطية وسط دول استبدادية، لتخفي وجهها الكريه في التعامل ضد الفلسطينيين، والذي يتراوح بين فصل عنصري وإبادة جماعية مستمرة، سواء بطرق ناعمة في أغلب الأوقات، أو خشنة وقت المواجهة والحروب.

وتواطأت وسائل الإعلام التقليدية الغربية مع هذه الصورة المختلقة، بل ساهمت في نشرها، لكن جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتحرّر أذهان الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وتكشف لهم حقيقة إسرائيل، وبذا سقطَ عنها الطلاءُ المزيف الذي ظلّ بريقه يخدع الناس زمنًا طويلًا. وقد انعكست يقظة الوعي هذه في المظاهرات والاحتجاجات التي ساندت الحقّ الفلسطيني في مختلف أرجاء العالم.

3 – احتمال تراجع أنظمة عربية حاكمة عن اتخاذِ إسرائيلَ ملاذَ حماية أو شريكًا عسكريًا، بعد أن ثبت لهم أنّ الجيش الإسرائيلي ليس بالقوّة التي كانوا يتصوّرونها، ومن ثَمّ عليهم بعد الحرب أن يبحثوا عن وسائل أخرى لتحقيق قدر من التوازن الاستراتيجيّ أو التفاهم وحماية المصالح.

 

المحتوى ذو الصلة