على مدار العقود الماضية، شهد الشرق الأوسط سلسلة من الحروب والصراعات التي بدت في ظاهرها متفرقة، لكنها في عمقها كانت تخدم مشروعاً أعمق وأكثر خطورة: فرض مشروع “إسرائيل الكبرى” خطوة بخطوة على وقع الحروب، زعزعة الاستقرار، وتفكيك الدول العربية المحيطة. هذا المشروع لم يكن مجرد حلم أيديولوجي هامشي في الخطاب الصهيوني، بل تحول إلى خطة عملية يجري تنفيذها على الأرض بهدوء، وبتواطؤ دولي، وأحياناً باندفاع عربي غير محسوب.
في جوهر هذا المشروع تقف إسرائيل باعتبارها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، حيث تمتلك ترسانة نووية يُقدَّر حجمها بين 80 إلى 200 رأس نووي وفق التقديرات المختلفة. هذا التفوق العسكري النوعي منح إسرائيل مظلة ردع استراتيجية لم تقتصر على منع الهجمات المباشرة عليها، بل وفرت لها الغطاء اللازم لتنفيذ سياسات عدوانية وتوسعية تحت سقف مظلة الحماية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
مشروع “إسرائيل الكبرى” يتجاوز حدود 1967 التي طالما تحدث عنها العالم كخط أساس لأي تسوية سلمية. وفق الرؤية الأيديولوجية الأشد تطرفاً في الفكر الصهيوني، يشمل المشروع أراضي تمتد من النيل إلى الفرات، وتضم فلسطين بالكامل، وأجزاء من سوريا ولبنان والأردن والعراق وشبه جزيرة سيناء المصرية. قد يبدو ذلك طرحاً متطرفاً يصعب تصديقه في السياسة الواقعية، إلا أن الأحداث المتتابعة تكشف كيف يتحرك هذا المشروع عملياً من خلال فرض الوقائع على الأرض وليس عبر الاتفاقيات المعلنة.
منذ عام 1948 وحتى اليوم، كانت كل حرب رئيسية في المنطقة بمثابة خطوة إضافية في هذا المخطط. من حرب النكبة عام 1948، إلى العدوان الثلاثي عام 1956، إلى النكسة عام 1967 التي دشنت سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء، مروراً بحرب 1973، ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحرب تموز 2006، وصولاً إلى الحروب المتكررة على غزة، جميعها صبت في صالح تعزيز الموقع الأمني والعسكري والسياسي لإسرائيل وتفتيت الجبهة العربية بشكل منهجي. ثم جاءت الكوارث الكبرى في مطلع هذا القرن: غزو العراق عام 2003 الذي أسقط أحد أهم أركان التوازن الإقليمي العربي، والحرب السورية التي اندلعت عام 2011 ومزّقت سوريا إلى ساحات نفوذ دولية وإقليمية متصارعة. في هذا الفراغ الكبير، استطاعت إسرائيل أن تعزز من اختراقها السياسي للمنطقة عبر ما سمي بـ”اتفاقيات أبراهام”، التي أدت إلى تطبيع علاقاتها مع عدد من الدول العربية وتجاوزت بالكامل جوهر القضية الفلسطينية.
في قلب هذا المشهد، لعب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دوراً محورياً في إعادة صياغة أولويات الصراع الإقليمي. فخلال سنوات حكمه الطويلة، لم يكتفِ نتنياهو بإدارة الصراع مع الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات، بل سعى إلى تحويل مركز الثقل في المخاوف الدولية بعيداً عن الاحتلال الإسرائيلي إلى “الخطر الإيراني”. عبر حملة دبلوماسية مكثفة امتدت لعقود، نجح نتنياهو في إقناع العواصم الغربية والعربية على حد سواء بأن التهديد الحقيقي للاستقرار الإقليمي لا يكمن في استمرار الاحتلال أو في التوسع الاستيطاني، بل في “البرنامج النووي الإيراني” و”أذرع طهران في المنطقة”.
بدهاء سياسي محسوب، جعل نتنياهو من إيران شماعة لتبرير كل تحركات إسرائيل العدوانية في فلسطين وخارجها. أصبح أي قصف في سوريا أو لبنان أو العراق يُسوّق على أنه “مواجهة مع النفوذ الإيراني”. حتى اتفاقيات التطبيع والتصعيد المستمر في غزة يُطرح في الخطاب الإسرائيلي ضمن معركة كبرى ضد “وكلاء إيران في المنطقة”، في محاولة لتأطير الصراع الفلسطيني وكأنه جزء من صراع إقليمي أوسع وليس نتيجة احتلال مستمر منذ 75 عاماً.
أما الحرب الجارية حالياً في غزة (2023-2025)، والتي قد تمتد إلى لبنان وساحات أخرى، فتخدم عملياً عدة أهداف إسرائيلية متداخلة:
• تصفية المقاومة الفلسطينية والقضية الوطنية برمتها.
• إحداث تغييرات ديمغرافية كبيرة في قطاع غزة والضفة الغربية.
• إعادة رسم الحدود الأمنية وخلق مناطق عازلة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة.
• إضعاف دول الجوار وإبقاؤها منشغلة في صراعاتها الداخلية بعيداً عن الصراع العربي الإسرائيلي.
ورغم أن إسرائيل لم تعلن رسمياً عن ضم الأراضي بشكل صريح، إلا أن السيطرة الفعلية عبر الاستيطان المكثف، وإدارة الفلسطينيين عبر سلطات أمنية وسياسية، تحقق نفس النتيجة دون تكلفة سياسية كبيرة على الساحة الدولية. كل ذلك يتم تحت حماية أمريكية وغربية مطلقة، حيث يضمن الردع النووي الإسرائيلي أن لا تجرؤ أي دولة إقليمية أو دولية على تجاوز الخطوط الحمراء.
إن ما نشهده اليوم من إعادة تشكيل لخريطة الشرق الأوسط عبر الحروب والفوضى ليس وليد المصادفة، بل نتاج سياسة “الفوضى المدارة” التي توسع الأمن الإسرائيلي على حساب تفتيت السيادة العربية. وبينما ينشغل العالم بالحديث عن “وقف إطلاق النار” و”المساعدات الإنسانية”، تواصل إسرائيل زحفها البطيء نحو واقع جديد تتحول فيه إلى القوة المهيمنة إقليمياً وسط دول مجاورة ضعيفة ومجزأة.
ويبقى السؤال الجوهري: من سيوقف هذا المشروع؟ وبأي ثمن؟ لأن كل حرب مؤقتة تترك آثاراً دائمة تعيد رسم حدود النفوذ والسيادة في المنطقة لعقود قادمة من خارطة الشرق الأوسط الجديد الذي عرضه نتنياهو صراحة في نيويورك- مقر الأمم المتحدة سبتمبر ٢٠٢٣