على مدار عقود والمرء يسمع حتى بات أقرب للاقتناع؛ أن الغرب المتصهين تحديدا هو من يملك الإعلام ويسيطر على كل أدواته، وهذه حقيقة، ولكني وبعد عملية طوفان الأقصى بدا لي أنه ورغم السيطرة والعبث بالعقول لعقود فشل في إثبات أحقيته في تصدر المشهد أو تزعم حركة انتقال المعلومات المجردة والحقيقة الراسخة كما هي.
فشل إعلام الغرب الذي تجاوز عدد وسائله وأدواته آلاف الصحف والمجلات والقنوات والمواقع الالكترونية واستوديهات الإنتاج ومراكز الترفيه من سينما ومسرح وترفيه عبر الإنترنت؛ في الصمود أمام الحقيقة المجردة والمتمثلة في عدوان الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني المحتلة أرضُه والمغتصبة مواردُه ومصادره الطبيعية عبر عقود، وقدم رواية الكيان الصهيوني الكاذبة والمكذوبة لما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وحين انقشع الغبار عن وهم الرواية الصهيونية لم يكلف إعلام الغرب المتصيهن نفسه اعتذارا ولا حتى تفسيرا لتسرعه في تبنّي رواية العدو المحتل لما جرى يوم السبت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
انكشف إعلام الغرب مع توالي السؤال الممجوج: هل أدنت حماس اليوم؟ دون أن يتطرق لحقيقة الأمر، وهل ما كان من المقاومة كان فعلا أم رد فعل لاحتلال طال أمده. وشاهدنا كبار المذيعين في القنوات الفضائيات الغربية وهم يتسابقون لطرح ذات نفس السؤال الغبي ويرفضون الإجابة بطرح السؤال المشابه: ولماذا لا تدينون الكيان الصهيوني على قتل الأطفال والنساء العزل؟
انكشفت عورة إعلام الغرب والعرب المتصهينين عندما تبنوا الرواية الصهيونية وعندما عزلوا أنفسهم عن الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة المحاصرة والمدمرة والتي تعيش أسوأ حصار وتعد أكبر سجن مفتوح في العالم، وظهر في الأفق إعلام آخر هو إعلام الحقيقة الذي تبنته المقاومة الفلسطينية وأصرت عليه رغم الزيف والضلال والتضليل الذي مارسه إعلام الغرب والعرب المتصهين.
لقد عشت وهم حرية الإعلام الغربي، وسأضرب مثلا بنفسي. فقد كنت وعلى مدار عمري المدرك لحقيقة العالم وما يدور فيه من حولنا ورغم مساهماتي الإعلامية باللغة العربية عبر المقالات والتحليلات على مدار أربعة عقود، فقد كنت دائم الاطلاع على الصحف الأجنبية وزبونا دائما في اشتراكات المجلات الأجنبية السياسية والاقتصادية، وكنت أنتظر العدد تلو الآخر قبل أن يهبط علينا الإنترنت فتحولت الاشتراكات إلى أونلاين؛ لأحصل من خلالها على مرادي من المقالات والتحليلات بهدف فهم ما يجري وما يدور حتى في دهاليز السياسة العربية المعتمة. وحتى اليوم لا زلت على اطلاع على وسائل الإعلام الغربية المرئية منها والمطبوعة والمكتوبة، ولا شك أن فيها جزءا كبيرا من الصواب خصوصا التحليلات الرصينة التي تقدمها مجلات ذات وزن مثل الفورين بوليسي وإلى حد ما الفورين أفيرز، لكنني أعترف رغم شغفي للاطلاع على وجهة النظر الغربية في العديد من الموضوعات؛ أنها جميعا أو في مجملها كانت منحازة لوجهة نظر الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين المحتلة.
فيما سبق كان الانحياز غير مفضوح وربما يكون مستترا فلا تدركه إلا الأعين الخبيرة والبصيرة والعليمة بمفردات اللغة والتراكيب اللغوية، مثل ما هو مشهور عن المصطلح الذي صكته إذاعة بي بي سي عن الاعتداءات الصهيونية على أهلنا في فلسطين والتي كانت تشير إليها بالقول “مقتل طفل وإصابة إمرأة فلسطينية وسط اشتباكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين”، وإذا دققت في الأمر ستجد أن جنود الاحتلال أطلقوا النيران على أطفال ونساء فلسطينيين كانوا يتظاهرون في يوم الأرض مثلا، وهكذا.
وعلى نفس الدرب تجد شريط الأخبار في سي إن إن وفوكس نيوز وسكاي نيوز يتحدث عن موت فلسطينيين دون الإشارة إلى السبب، وهو القصف المتعمد بقنابل شديدة الخطورة والتهلكة.
يعبث الإعلام الغربي بالعقول حين يضع عنوانا لما يجري مثل الحرب بين حماس وإسرائيل، بالتالي يتسرب إلى اللا وعي أنها حرب بين طرفين وليست مقاومة من طرف من احتلت أرضه ضد من اغتصب الأرض، أو على النحو الذي نشهده حاليا عن لماذا لا تدين حماس؟ وكأن الأمر هو هل أدنت حماس اليوم؟ بمعنى أن الوجبة الإعلامية الصحية بالنسبة لهم تبدأ من إدانة حماس ثم نكمل الحوار، ومن لم يجب بنعم لن يستمر ولو لساعات إلا إذا امتلك والشجاعة مثلما فعل ويفعل حسام زلمط ممثل فلسطين في بريطانيا، وهو سياسي شجاع وجريء لم يستطع إعلام الغرب المزيف الوقوف أمام كلماته التي تنطلق كالصواريخ العابرة للقنوات وعباراته المدوية في فضاء إعلام مهترئ مهزوز.
قدمت دولة الاحتلال روايتها وتلقفها إعلام الغرب المتصهين، وفي ثوان معدودة تم تصدير الرواية وتعميمها وتكفير كل من ينفيها، رغم أن الاحتلال لم يقدم ما يثبت الرواية أو يؤكدها، ولكن إعلام الغرب الأعمى أو الأعور تبنى الرواية ولا يزال رغم أن التحقيقات داخل الكيان الصهيوني أثبتت الرواية الفلسطينية القائلة بأن مدنيين قتلوا على يد بني جلدتهم في قصف جوي بعد أن علم الصهاينة أن عملية عسكرية قد تمت داخل العمق الصهيوني الغاصب، فما كان منهم إلا تصدير رواية مضللة لشغل الرأي العام العالمي عن حقيقة الهزيمة العسكرية والسياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل تبرير ما سوف تقوم به دولة الكيان الصهيوني لاحقا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.
حاول الإعلام الصهيوني في الغرب ومن ورائه الإعلام المتصهين في الشرق شن حملته على المقاومة في محاولة لتشبييها بداعش، ولكن إعلام المقاومة نجح في دحض كل هذه الأكاذيب التي تم تسويقها، فكانت إطلالة رجل ملثم بكوفيته الحمراء وصوته المميز، وبمجرد الإعلان عن موعد خطابه كل يومين أو ثلاثة أيام يتسمر الملايين حول الشاشات ويتداولون مقاطع كلمته التي عادة ما تتسم بما هو آت:
1- نبرة صوت الواثق في النصر.
2- الاستدلال بالآيات والاسترشاد بالأحاديث.
3- الوضوح التام والصراحة المتناهية.
4- الاختصار الملم بالتفاصيل الكثيرة.
5- المتابعة والتحديث الدائمين.
6- دقة الأرقام والمعلومات والمواقع والأشخاص.
7- فضح التضليل ودحض الأباطيل.
8- استباق بيانات الاحتلال مما يضع الأخير في حرج أمام الرأي العام.
9- حديث المنتصر لا من يبحث عن النصر أو ينتظره.
تمكن إعلام المقاومة من هزيمة إعلام الصهيونية الغربية والمتصهينين العرب، فلم يثبت عليه كذب أو تهويل أو تضخيم أو حتى إساءة، فرغم الموقف المخزي لبني العروبة والإسلام، فقد استحى الرجل من أن يذكر شيئا عنهم سوى “لا سمح الله”، فكانت سهما نافذا إلى قلوب وعقول من فقدوا الرشد والعاطفة من بني العروبة والإسلام؛ أعجزهم عن النطق والرد، فماذا عساهم أن يقولوا وقد ألزمهم الحجة وأقام عليهم الدليل بـ”لا سمح الله”.
في رأيي المتواضع أن إعلام الحقيقة ينتصر دوما، ولكن ضعف قلوبنا وهوان أحوالنا يجعلنا لا نصدق هذه الحقيقة، فإعلام الصهاينة أشبه ببيت العنكبوت الذي أطاحت به كلمات الرجل وعباراته وحقائقه الدامغة.
لقد تميز إعلام الغرب عبر العصور بميزة الوصول إلى المعلومات وهي ميزة غير موجودة في عالمنا العربي حتى ظهر إعلام المقاومة، وهو يصل بنا إلى كافة المعلومات وينقلنا عبر بياناته إلى ساحات المعارك حتى جعلني وكأنني أبدو أتجول معه في شوارع غزة وميادين القتال وساحات الوغى قبل أن أرى الصور والفيديوهات.
لقد حاول فرعون كثيرا استخدام آلته الإعلامية ومفرداته الفريدة مثل “شرذمة قليلون” و”إن هذان لساحران” و”أليس لي ملك مصر”، و”ابنِ لي ياهامان صرحا”، ولكن عندما واجهه موسى عليه السلام بإعلام الحقيقة انهارت كل أكاذيبه وبقي وحده في قلب البحر ينادي مدعيا الإيمان، ولكن هيهات هيهات فقد انتهى الوقت وحُسم الأمر، فكلمة واحدة من موسى قضت على كل أباطيل موسى فآمن السحرة وتركوا فرعون وما يدعيه ليؤمنوا برب موسى وهارون.