إسرائيل ترفع القناع عن وجهها القبيح وعزلة دولية في انتظارها بقلم د. سنية الحسيني

وبينما تواصل إسرائيل جرائمها في غزة دون هوادة، وبتصعيد ملحوظ للمتابع، بهدف تنفيذ مخططاتها التي أعلنت عنها منذ بداية الحرب التي تركز على تهجير الفلسطينيين، في ظل دعم مطلق من حكومة دنالد ترامب، بدأت الدول الغربية تتخذ مواقفاً عقابية ضد حكومة الاحتلال. في حين بقيت مخرجات القمة العربية الأخيرة في حدود استنكار العاجز وإدانة المتفرج، ليعكس ذلك تواصل حالة التبعية للولايات المتحدة، التي لاتزال تتحكم بقرارات المنطقة. وبينما تتواصل التصريحات المنتقدة بجرأة لدولة الاحتلال، ومن شخصيات رسمية إسرائيلية وأميركية، تشكل مواقف علماء السياسة المؤسسين والمطورين لعلم العلاقات الدولية في الولايات المتحدة، صورة صادمة لواقع الاحتلال، تتجاهلها الإدارة الأميركية باستعلاء لافت، ويتغاضى عنها صانع القرار في منطقتنا، فإلى متى سيستحمل العقل العربي عجزه الرسمي؟

في تطور مهم تواترت التصريحات والبيانات الغربية الرسمية الفردية والجماعية، والتي تجاوزت مرحلة انتقاد إسرائيل على جرائمها في غزة إلى مرحلة فرض العقوبات عليها، لأول مرة منذ بدء الحرب. أصدرت اثنتان وعشرون وزارة خارجية وثلاثة مكاتب رفيعة المستوى في الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين الماضي بيانًا مشتركًا طالب إسرائيل بالسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كامل، حيث انتقد البيان بشكل نادر الحملة العسكرية الإسرائيلية “غير المتناسبة” في غزة. وأصدرت فرنسا وكندا والمملكة المتحدة يوم الاثنين الماضي أيضاً بيانًا مشتركًا أعلنت فيه أنها ستتخذ إجراءات “ملموسة” ضد إسرائيل إذا لم يتوقف الهجوم على غزة. وصرح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في اليوم التالي بأن فرنسا تدعم مراجعة علاقات الاتحاد الأوروبي بإسرائيل كجزء من الإجراءات الإضافية التي تدرسها المملكة المتحدة وفرنسا وكندا بشأن حرب إسرائيل على غزة.

وبشكل فردي، اتخذت دول أوروبية مركزية مواقف صارمة من إسرائيل في ظل استمرار جرائمها في غزة. فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفرض حظر أسلحة على إسرائيل، معتبرا أن تلك هي “الوسيلة الوحيدة لإنهاء الحرب في غزة”. وأعلنت المملكة المتحدة أنها ستجمد مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، واصفة حكومة نتنياهو بأنها تنتهج سياساتٍ فاضحة في الضفة الغربية وغزة. وأكدت السويد بأنها ستعمل مع الدول الأوروبية للضغط من أجل فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين. ولا تتعامل إسبانيا تجاريا مع إسرائيل، وأوقف تصدير الأسلحة اليها،واعترفت بها، ووصف رئيس وزرائها مؤخرا إسرائيل بأنها “دولة إبادة جماعية” لأول مرة من بدء الحرب على غزة. ورغم أن الحكومة اليمينية في إيطاليا أقل هجوماً على سياسات إسرائيل في غزة مقارنة مع الحكومة الإسبانية، إلا أنها أصبحت أكثر صراحة في انتقادها لممارسات إسرائيل في غزة، وتدعو لرفع الحصار عن المساعدات للقطاع. ورغم موقف المانيا الداعم باستمرار لإسرائيل، أصدر المستشار الألماني فريدريش ميرتس مؤخرا بيانًا دعا فيه جميع الأطراف إلى تجنب “المجاعة” في غزة، في انتقاد لإسرائيل.

على الجانب الآخر وفي ذات الإطار، بقيت لغة البيان الختامي للقمة العربية ال 34 التي انعقدت مؤخرا في بغداد في حدود الرفض لتهجير الفلسطينيين من غزة والدعوة لادخال المساعدات الإنسانية وحث المجتمع الدولي لوقف إرقة الدماء في غزة، والقفز عن مرحلة الإبادة الحالية بالحديث عن مرحلة إعادة الاعمار. ويعد ذلك غريباً ومستهجناً، فبينما بدأت الدول الغربية المعروفة تقليدياً وتاريخياً بدعم إسرائيل بتحركات جماعية وفردية لفرض عقوبات على دولة الاحتلال لمواصلة جرائمها في غزة، تخرج الجامعة العربية ببيان يشبة بياناتها الخطابية الفضفاضة الفارغة من أي محتوى عملي وسياسي واقعي لكبح جماح إسرائيل، وتستمر الدول العربية التي تتعامل مع دولة الاحتلال بذات سياستها العادية، في تجاهل تام للدم النازف في غزة.

وفي حين تنتقد شخصيات إسرائيلية وأميركية وازنة ملامح سياسات إسرائيل والولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين، يحسم منظرو علم العلاقات الدولية ذلك بوضوح. اعتبر يائير غولان رئيس حزب “الديمقراطيين” في إسرائيل، إن الدولة العبرية تسير نحو العزلة الدولية، بسبب سياسات حكومة نتنياهو التي وصفها بأنها تشن حروبا ًضد المدنيين وتقتل الأطفال والرضع وتسعى لتهجير السكان، الأمر الذي اعتبره أنه يشكل خطراً وجودياً على إسرائيل. وطالب السيناتور الأمريكي اليهودي بيرني ساندرز بلاده بوقف إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، معتبراً أن ما يجري في غزة مروّع، واتهم ساندرز جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، بإسكات زملائه الديمقراطيين عن انتقاد الحرب في غزة من خلال تهديدهم بتمويل منافسين لهم في الانتخابات التمهيدية، مؤكداً أن لدى بلاده نظام تمويل حملات انتخابية فاسد. وأنفقت إيباك العام الماضي 14.5 مليون دولار للإطاحة بالنائب الديمقراطي جمال بومان عن ولاية نيويورك، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.

ويحسم أهم منظرو علم العلاقات الدولية حقيقة الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون وسياسات إسرائيل ودور الولايات المتحدة. فقد اعتبر جون ميرشايمر أهم رواد المدرسة الواقعية الجديدة، أنه في حين تركز وسائل الإعلام الغربية على اهتمام إسرائيل بهزيمة حماس واستعادة “الرهائن” في حرب غزة الدائرة حالياً، تتغاضى عن الهدف الحقيقي بتطهير غزة عرقيًا. ويعتبر ميرشايمر أن ذلك الهدف يتقاطع مع سياسات إسرائيل الاستراتيجية، التي توجه نحو التخلص من اعتبارها دولة فصل عنصري، وخطورة ذلك على مستقبلها وبقائها. واعتبر ميرشايمر أن الادعاء الإسرائيلي بالقضاء على حماس هو سبيل إسرائيل لتحقيق ذلك، مؤكداً أن إسرائيل نفسها تعرف أنها لا تستطيع القضاء على حماس إلا إذا طرد جميع الفلسطينيين من غزة. ودعم ميرشايمر حجته بأن ذلك ليس جديداً على هؤلاء، فإنشاء “دولة إسرائيل”، اعتمدت على القيام بتطهير عرقي واسع النطاق في العام 1948، وتكرر ذلك في العام 1967. ويدعم ميرشايمر مقاربته بأن نتنياهو لم يفصح عن اية خطط لمستقبل غزة، ولا يقبل بوقف الحرب، في حين يواصل جيشه قتل الفلسطينيين رغم عدم علاقتهم بـ”حماس”، ويجعل غزة غير صالحه للعيش، ويقوم بتجويع الفلسطينيين، لتشجيع السكان على مغادرة غزة. يؤكد ميرشايمر أنه حتى الآن إسرائيل لم تهزم حماس ولم تخرج المحتجزين ولم يخرج الغزيين من غزة، بينما تعلق إسرائيل في غزة، التي باتت دولة منبوذة، على نحو لم تكن عليه من قبل في أي وقت مضى. 

واعتبر مارشايمر أيضاً أن إسرائيل تشكل عبئاً استراتيجياً على الولايات المتحدة. وكان ميرشايمر وزميله ستيفن والت أحد أهم منظري المدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية أيضاً قد كتبا كتاباً في العام 2007، اتهما على إثره بمعاداه السامية، أكدا خلاله على أن دولة تقوم على أساس النقاء العرقي تفتقر للقيم الأخلاقية، الأمر الذي يدعم مقاربته اليوم. وأكد العالمان في ذلك الكتاب على خطورة اللوبي الصهيوني على توجيه السياسة الأميركية المتعلقة بإسرائيل، وحذرا من أن “الدول القوية يمكن أن تحافظ على سياسات معيبة لفترات طويلة، ولكنها لا تستطيع أن تتجاهل الحقائق لفترة طويلة”، إلا أنهما شددا على أنه ليس هناك ما يشير إلى تغير سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل في القريب المنظور. ويعتقد ميرشايمر أن التأثير غير المتوازن للوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأميركية يؤدي لاتخاذ قرارات لا تخدم المصلحة القومية الأمريكية. يرى والت أن الدعم غير المشروط لإسرائيل يضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويضعف من قدرة واشنطن على لعب دور الوسيط النزيه. 

ليس ميرشايمر ووالت فقط من انتقد سياسة إسرائيل خلال الحرب الحالية على غزة، أو علاقات بلادهم بها، فهناك الكثير من علماء السياسة من حسم مواقفهم، انطلاقاً من اعتبارات منهجية لا أيديولوجية. يعتبر الفيلسوف الأميركي نوام تشومسكي أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يعكس سياسة إمبريالية تؤدي إلى تقويض حقوق الإنسان وتضر بصورة الولايات المتحدة عالميًا. ويُحمّل تشومسكي الولايات المتحدة المسؤولية السياسية والعسكرية عن استمرار الاحتلال وانتهاكاته حقوق الإنسان واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين. يُؤمن أيضاً أن الإعلام الغربي منحاز بالكامل لصالح إسرائيل ويُسهم في تزييف الحقائق.

وينتقد فرانسيس فوكوياما أحد أهم رواد المدرسة الليبرالية الجديدة، والذي كان مؤيدًا تقليديًا لإسرائيل، النفوذ المفرط للوبي الإسرائيلي وسياسة واشنطن تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، معتبرًا أنها تضر بمكانة أمريكا الأخلاقية ومصالحها الدولية، معتبراً أن “الدعم الأعمى للسياسة الإسرائيلية أدى إلى تقويض مصداقية أميركا في مجال حقوق الإنسان وإلحاق الضرر بعلاقاتنا في العالم العربي”.

وعبر جوزيف ناي، أحد أهم مفكري المدرسة الليبرالية، عن قلقه من تآكل صورة أمريكا العالمية بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل في ظل انتهاكات حقوق الإنسان، ودعا لتنبي نهج دبلوماسي يُعيد التوازن إحياء حل الدولتين. واعتبر ناي أن افتقاد إسرائيل لاستخدام القوة الناعمة يفقدها الدعم الدولي.  وأما المفكر البنائي ألكسندر وندت فقد اعتبر أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يرتبط بهوية أمريكا كـ” مدافع عن الديمقراطية في الشرق الأوسط”، ولو كانت تلك الديمقراطية انتقائية. 

وانتقدت عالمتا المدرسة البنائية في العلاقات الدولية مارثا فينيمور وكاثرين سيكينك تجاهل أمريكا لمعايير القانون الدولي عند دعمها لإسرائيل في سياقات حقوق الإنسان. وركزت سيكنك على ازدواجية المعايير الأمريكية، وأشارت إلى أن الدعم غير المشروط لحلفاء مثل إسرائيل يُضعف نظام حقوق الإنسان العالمي. ويعتبر رونالد ر. كريبس أحد مفكري نفس المدرسة أن إسرائيل أصبحت “جزءًا من الهوية الأمريكية السياسية” بسبب بناءات خطابية منذ الحرب الباردة، وليس بسبب مصلحة استراتيجية دائمة.

وكان لهؤلاء العلماء موقف يتعلق بحرب غزة، فأشار فوكوياما إلى أن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل في تلك الحرب يضر بمصداقية الولايات المتحدة ويقوض مكانتها الدولية، وأن الصراع في غزة يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الليبرالية، خاصة عندما تُطبق بشكل انتقائي. وانتقد ستيفن والت الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل خلال الحرب على غزة، واصفًا ذلك بأنه “كارثة استراتيجية وأخلاقية” وأشار إلى أن هذا الدعم يقوض مصالح الولايات المتحدة في المنطقة ويؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار. ويناقش رونالد كريبس أحد رواد المدرسة البنائية تأثير الحرب في غزة على حرية التعبير في الجامعات الأمريكية. ويرفض هارولد هونغجو كوه، أحد أهم أستاذة القانون الدولي في الولايات المتحدة ويدرس في جامعة ييل العريقة، استخدام إسرائيل لمفهوم “حق الدفاع عن النفس” لتبرير العمليات العسكرية في غزة، مؤكداً إلى افتقاد ذلك للأساس القانوني في ظل الاحتلال المستمر. وأشار كوه إلى أن العمليات الإسرائيلية في غزة تخرق مبادئ القانون الدولي، وأن الصمت الأمريكي عنها يضر بشرعية النظام الدولي، وشدد على أهمية المساءلة القانونية في حرب غزة وفي النزاعات المسلحة.

رغم دعم العديد من علماء العلاقات الدولية العلاقات الأميركية الإسرائيلية لعقود، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة، معتقدين أن ذلك يخدم المصالح الأمريكية، مثل المنظر الواقعي هانس مورغنثاو والليبرالي بول بيرمان والبنائي والتر راسل ميد، إلا أن سياسات إسرائيل الإمبريالية الإحلاليةكشفت عن وجهها الحقيقي تدريجياً، وأحرجت القطب الأميركي الحليف، وباتت عرضة للانتقاد من قبل رواد وعلماء ومنظري العلومالسياسة والعلاقات الدولية والقانون الدولي الأميركيين أنفسهم. 

مشاركات مماثلة