[[{“value”:”
دعوني أولًا أعرب عن أسفي إذ ارتكبت في مقال سابق خطأ لن أنساه أبدًا حين اقتطفتُ جزءًا من كلام مترجم للعربية من مقال نسب تزويرًا لكاتب بريطاني، قيل إنه نشر في جريدة بريطانية، وتبين أنه غير صحيح، وأخطأت عندما استشهدت به في المقال. لقد تعجلت لأني وثقت بمن أرسله لي من دون أن أبحث وأخطأت، ولا أملك إلا أن أعتذر، وأن أتعلم، وليس في هذا عيب، وأرجو أن أنال العفو من الله أولًا، والسماح منكم.
ولعلي لا أجد مسوغًا أو تفسيرًا لخطأ يرتكبه مَن عمِلَ في الصحافة عقودًا متتالية، إلا التسرع والثقة الزائدة عن الحد في المصدر، فارتكب مثل هذا الخطأ، وهو يعلم أن ما يأتي على وسائل التواصل الاجتماعي ليس موثوقًا، وينبغي التحقق منه، ولكننا – بني البشر- لا بدَ أن نَخْطَأ، لأن من المستحيل لنا أن نبلغ مرتبة الكمال، فهي لله وحده، خلقنا هكذا كي نظل نعمل للارتقاء والإتقان والإحسان وهي أعلى مراتب العمل الإنسانيّ.
تصحيح المنهج
هكذا هي حياتنا محطات نتعلم منها حتى حينما نخطئ. وكلما امتدّ بنا العُمُر وراجع الواحد منا ما فات من العمر، يتمنى لو أنه ما فعل بعض الأمور، ولكن هيهات، وما يهم هو تعديل المسار، وتصحيح المنهج حين يجانب صاحبه الصواب، حتى ينقل تجربته بأمانة لمن بعده.
والعبد لله من جيل النكبة، وُلد بعدها بعام أو يزيد قليلًا، وعاش آلامها واكتوى بأوجاعها طفلًا وصبيًا وشابًا، وما زال وهو في منتصف العَقد الثامن من العمر يتلوّى وهو يرى أمّة كاملة لا تحرك ساكنًا لنجدة غزة وفلسطين. ما أشد هذا الألم! ولن يعرفه إلا من عاش عمره من دون أن يعرف معنى الوطن المستقل.
بعد منتصف الخمسينيات أصبحت صبيًا يرود المراعي مع أترابه، يسوقون صغار الماعز والخراف إلى الوُدْيان وإلى رؤوس التلال والجبال. وفي يوم صافٍ على قمة جبل المزار شمال قريتنا كنا نرى زرقة مياه البحر المتوسط. وإن صعدنا يومًا قبل الغروب كانت ضياء الشمس تنعكس صفراء من على صفحة الماء. كنت أمعن النظر وأحاول تخيّل الشاطئ والبحر، ولم أكن قد رأيت بحرًا من قبلُ، ولا وقفت عند شاطئ.
وكل ما عرفته وسمعته عن ذلك البحر وتلك الشواطئ في فلسطين بضع عبارات وشهادات عيان كان جَدّي يقصها، وقد كان يرعى الغنم فوق تل الربيع قبل أن يصبح اسمه بالعبرية تل أبيب، وأبيب هي النطق المعرب لكلمة أفيف العبرية، ومعناها الربيع إن شئت ترجمتها.
ويكبر الصبي وكلما توسعت معارفه في المدرسة عن “الوطن السليب”، كما اعتدنا وصفه، توسعت آفاق خياله وما فيه من صور. عن يافا وشواطئها وعن عكا وأسوارها، وعن طبريا وصفاء مياهها، وعن اللد ومطارها، وعن حيفا ومينائها، وعن جبال الجليل وشموخها، وعن مرج ابن عامر وخصبه، وعن السهل الساحلي وبهائه، وعن غزة وعزتها، وعن النقب وقبائله، وعن أم الرشراش ودفئها، وعن البيارات وبرتقالها، عن كل الوطن المستلب منذ أن ولدت!
كم كنت أمني النفس لو أني أستطيع أن أسوق قطيع أغنامي يومًا وأرعاها فوق تل الربيع، وأنام حيث كان جَدي ينام. كم تمنيت لو أني أتقن السباحة في البحر فأعوم في المياه التي تغسل يافا فيها أخمصيها. كم تمنيت لو أني أصعد إلى قمة جبال الجرمق وقد تعلمنا أنه الأعلى في فلسطين. كم تمنيت لو أني أرى الكرمل وميناء حيفا الشهير. كم تمنيت وحَلَمت، ثم صحوت في يونيو/حزيران 1967 وأنا شاب وقد وُئِدَت كل أحلامي وأصبح الوطن كله مستلبًا.
واقع مرير
بعد شهور قليلة أصبح بإمكاني أن أعبر إلى ما كنت أتمنّى أن أراه. ركبت حافلة من حافلاتهم وذهبت. مررنا بكفر قاسم ورأس العين واللد والرملة حتى يافا وتل أبيب.
هل تحققت أحلامي؟ أم ليتها ظلت خبيئة في الخيال فالحلم الخبيء المَوْؤُود أرحم من الواقع المرير. على الشواطئ قوم منكرون حتى الرمل يستنجد بمن يريحه من وقع أقدامهم. وعلى تل الربيع، حيث رعى جدي أغنامه ثمة عمران غريب على الأرض وعلى التاريخ.
اختفت بيارات البرتقال واختفى سوق اللد وألوف الجمال ورؤوس الماشية تساق إليه من أصقاع الجزيرة والهلال الخصيب، واختفت مئات القرى فلا تكاد ترى لها من باقٍ، اختفى العقال والقمباز ودماية السرتلي وارد الشام وحلب، اختفت الأزياء النسائية التقليدية الجميلة، صمتت الزغاريد وتكبيرات المآذن، وسكتت صيحات الباعة والمتسوقين.
هل تحقق شيء من أحلامي الأولى؟ لا! ما هكذا تتحقق الأحلام، ولا أنا وجيلي من أولئك الذين يمكن لهم القول إنهم حققوها.
مضت الأيام كما شاء الله لها أن تمضي ولا نقدر أن نوقفها. غادر الشاب الأمرد القرية والمراعي والشويهات التي أحبها وما زال يحنّ إلى ثغائها وغاب وراءه جبل المزار وتعامير التين والزيتون وبيادر الغلال. غاب منظر أمي تنسج الأطباق من قشّ بيدرنا تلونه بأجمل الأصباغ. غابت ورائي كف يد أبي الخشنة تقبض على كابوس المحراث، وتناهى صوت خشخشة المناجل في مواسم الحصاد.
غاب خوار بقراتنا، ونهيق حمارنا وعواء كلاب حيّنا ونقيق دجاجاتنا ودُخَان التنور (الطابون) يملأ الفضاء.
غابت تواشيح أبي محمود على الربابة في الديوان ليالي الصيف. غاب العيد وتكبيراته وأضاحيه، وقبر جدي وجدتي وأخي نزورهم بعد الصلاة، وكم كان القرش في العيد خيرًا وفيرًا ننتظره بلهفة.
أسئلة حائرة
غابت أشياء كثيرة وغدت مجرد صور تكتنز بها الذاكرة، أما الأحلام العتيقة فظلت خبيئة يخشى صاحبها أن يبوح بها في الغربة ولا يَسْمح لها في دنيا الاغتراب، وحتى حين يعود صيفًا إلى الوطن، أن تتقد كما كانت تفعل في الصبا، وقبل أن يُسْتَلَبَ الوطن كاملًا. كان الاحتلال يضغط ليطمسها بحواجزه وسجنه وتحقيقاته وأفعال عملائه القذرة. وكانت إخفاقات الثوار ورموزها أشد وطأة في أحيان كثيرة على تلك الأحلام، وربما تدفع صاحبها إلى القنوط واليأس.
انتعشت الأحلام حين اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987، لكنها ما لبثت أن تراجعت حين دخلت القيادات الرموز على الميدان، وأفسدت بالمال كل شيء. ومع ظلام أوسلو لم يعد الواحد منا يتبين الطريق.
لم يكن ذلك حالي وحدي بل حال أجيال وأجيال لا بد أن تسأل اليوم أنفسها لماذا فشلنا نحن أهل الأرض أولًا؟ ولماذا فشلت الأمة من حولنا؟ وكيف نخرج من وَهْدتنا وماذا نفعل؟
ظلت هذه الأسئلة حائرة حتى أضاءت غزة الدنيا بنور “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. قال لنا حامل قذيفة الياسين الجواب يسير ومباشر وواضح: المقاومة. وقال لنا طفل من غزة يحفظ كتاب الله: الهوية. وقالت لنا أم من غزة: التوكل على الله. قالت لنا غزة: ادخلوا عليهم الباب وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد.
هذه هي الأجيال التي يحق لها أن تقول ها نحن بدأنا نحقق أحلامنا، أجيال الطوفان.
“}]]