تتعالى الأصوات في المكان، الكاميرات تتأرجح على وقع الخطوات المتسارعة وتلك المتثاقلة، الأقدام ترتطم ببعضها، أجساد غضّة تتوالى، باب سيّارة الإسعاف ما زال مفتوحًا على الصّرخات التي لا تنتهي، القماش الأبيض في الطّريق الآن وسيواري تسع زنابق يانعة.
وفي الميثولوجيا الحديثة: يحيى، وركان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدين، ولقمان، وسيدرا، كلّهم يحتشدون في حلق الطّبيبة آلاء النّجّار، الأمّ، التي شقّت الضّوء بعد أن بوغتت عيناها بما يعتصر الرّوح لتسع مرّات متتالية، دونما نفس واحد يصعد بينهما.
كانت شهقاتها تصل لعشرات الكيلو مترات، وهي تلملم الصّورة أمامها، أكاد أشعر بانكسار قلبها قطعة قطعة، وهي تعبر في دهاليز وعيها للفحص الأوّل حين اكتشفت أنّها حامل في ابنها البكر، إلى الحبل السّرّيّ، والحضن الأوّل، فشهادة الميلاد، وتوالي السّنوات، أولى الكلمات، وأولى الخطوات، ومن ثمّ الأحلام التي لم تكتمل، إلى آخر الأنفاس.
ها هي الآن تغسلهم بدموعها، بعد أن عدّت أضلاعهم للمرّة الأخيرة، وتقسّم الرّجفات بينهم بالتّساوي، رجفة لهذا وأخرى لذاك، في مشهد أنطولوجي يتمزّق على ساعديها، فهل تستطيع أن تتقيّأ حزنها؟
وهل من قلب يكفي لكلّ هذا الألم؟ المكان ضيّق حدّ خنق الأنفاس، لا يتّسع لمذبحتها، تركض بردائها الأبيض المنغمس في الدّم والفجيعة من جدار لآخر، ومن ممرّ نحو زاوية، كأنّها زرّ من قميص مقدود على قارعة الحياة، تحاول إنعاش حواسّها لاستيعاب ما حلّ بالأجساد النّائمة، وما زال صوت المسعفين يتردّد في عمق أذنيها: أطفال، أشلاء، إنّهم إخوة، ومن جديد تتعالى الكلمات المرتّبة والمشوّهة، كلّها لا تأتي بجملة واضحة تعيد صياغة المعاني.
تصرخ لمئات المرّات، وهنا تمنع من الوصول للنّقّالة، وهي ترى الأيدي مجتمعة تنزلق من يديها، عيونها تتبعثر فيها الكرة الأرضيّة بكلّ ما عليها من كائنات، وأشلاء، وبقايا أحفوريّة، لكنّها لا تبصر إلا رمادًا.
هي الآن تنظر للأعلى .. وتتقيّأ العالم كلّه.