عد زهاء ثمانين يوما من بدء معركة طوفان الأقصى والعدوان “الإسرائيلي” الدموي غير المسبوق على قطاع غزة، يكاد يكون الأخير لوحده في الميدان. فعلى صعيد الأنظمة والدول، ليس ثمة موقف عملي حقيقي إلى جانب غزة وأهلها على غرار المواقف الغربية إلى جانب الاحتلال ولا حتى بالحد الأدنى منها. وعلى صعيد الشعوب والنخب، فقد توقفت المظاهرات والاحتجاجات إلى حد كبير باستثناءات بسيطة. وعلى صعيد قوى المقاومة التي يمكن التعويل عليها، ما زال مستوى انخراطها في المعركة على مختلف الجبهات -على أهميته- ضمن قواعد واضحة ومحددة لا تشكل عبئا استثنائيا على الاحتلال، وبالتالي لا تملك تأثيرا كبيرا على مجريات الحرب.
والمحصلة أن غزة بمقاومتها وأهلها بقيت؛ أو للدقة تُركت وحيدة في هذه الحرب التي يصدق فيها أنها حرب اجتثاث، من باب أن الاحتلال يراها وجودية بالنسبة له. وفي تفسير أو تبرير ذلك، يقول الكثيرون إن العالم العربي عاجز عن أن يقدم شيئا ملموسا لغزة يمكن له إغاثتها فضلا عن نصرتها، وهو أمر من الصعب التسليم به دون فحصه، لا سيما وأن الحروب السابقة والوقائع الحالية تقول بعكس ذلك.
فإذا ما كان المقصود بالقول الشعوب العربية، فقد يصح أنها فعلا عاجزة عن نصرة غزة بما يجب، من باب أنها مغلوب على أمرها وأن التأثير في حرب من هذا النوع للدول والحكومات وليس الشعوب. لكن هذا، مع صحته، لا يعفيها من التقصير، إذ إن على الشعوب والنخب مسؤوليات ولها تأثير غير مباشر بالضغط على الحكومات والأنظمة لاتخاذ الخطوات المطلوبة والمؤثرة، لكننا مع كل أسف نجد أن معظم الشعوب والجماهير تحولت لمقاعد المتفرجين والمصفقين للمقاومة والمتغنين بنجاحاتها على أحسن تقدير.
وأما إن كان المقصود هو الدول والأنظمة والحكومات، فينبغي حينها النظر في أمرين: الإمكانات المتاحة لها ومدى كفايتها من عدمها لفعل شيء، وواقعها العملي في القول والفعل في هذه الحرب.
ثمة من يرى بأن الدول العربية لا قِبَل لها بهذه الحرب التي تخوضها “إسرائيل” جنبا جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن أي موقف منها قد تدفع ثمنه ما لا تطيقه من أكلاف. ورغم أن هذا منطق متهافت، إذ إن الدول تخوض الحروب حين تفرض عليها، لأن التورع عن ذلك يكون ثمنه أفدح في العادة، لكن، وحتى بعيدا عن ذلك، فالنظر للحد الأدنى من الموقف الممكن والمقبول والذي قامت به بعض الدول في حروب سابقة لم يحصل حتى اللحظة، وهذا مؤشر رئيس يوضع في ميزان التقييم.
إذ لم تسحب أي دولة عربية على علاقات دبلوماسية مع الاحتلال سفيرها لديه، ولا طردت سفيره لديها ولا حتى استدعته لوزارة الخارجية، وهو الحد الأدنى من الخطوات الاحتجاجية في العلاقات الدولية، بل إن الاحتلال هو من سحب سفراءه في الدول العربية والمسلمة خوفا من ردات فعل شعبية بعد مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني.
ومن لم يقوَ على خطوة الحد الأدنى لن يقدم على ما هو أعلى منها بالتأكيد، بيد أن الدول العربية تملك قطع العلاقات الدبلوماسية، وتجميد أو إلغاء اتفاقات التطبيع والتقارب والتعاون مع الاحتلال، وإيقاع عقوبات تجارية واقتصادية عليه، واستثمار العلاقات مع بعض القوى العظمى لإيجاد موقف دولي وأممي متوازن في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، والضغط على الأطراف الداعمة له وفي مقدمتها واشنطن، أو التلويح والتهديد بما سبق.
وعليه، فإن الدول العربية تملك إمكانات وأدوات تخولها اتخاذ موقف في الحرب، ويمكن له أن يكون مؤثرا، لكنها لم تفعل أو بالأحرى لم تُرد أن تفعل، وهذا ما يثبته الواقع الفعلي.
ذلك أن موقف معظم الدول العربية وخصوصا تلك المؤثرة في مسار القضية الفلسطينية؛ كان وما يزال أقرب للحياد بين المقاومة والاحتلال، بل إن بعضها ذهب لتجريم المقاومة وعدها منظمة إرهابية علنا، فضلا عن لوم حماس وإدانتها بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
كما أن إدخال مساعدات ومواد إغاثة، وهو الحد الأدنى الممكن والمقبول في حرب كهذه (تجاه المدنيين بغض النظر عن الموقف من حماس)، لم ولا يحصل إلا بالنزر اليسير وبالتضاد مع قرار القمة العربية- الإسلامية في الرياض. في المقابل، وللمفارقة، ما زالت بعض البضائع تصل دولة الاحتلال -خلال الحرب- من بعض الدول العربية وعبر بعض الدول العربية الأخرى (فضلا عن دول مسلمة كذلك)، بذرائع واهية وتحدٍّ ملحوظ لمشاعر شعوبها قبل أي طرف آخر.
كما أن بعض تلك الأنظمة في تنسيق كامل، وفق ما يعلن، مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تخوض الحرب مع الاحتلال وأحيانا بالنيابة عنه، وهو أمر لا يحتاج لكثير تفسير فيما يخص دلالاته.
ولعل المثال الأبرز على موقف الدول العربية البارزة من الحرب هو استمرار إغلاق معبر رفح؛ تارة بذريعة أنه لا يمكن لمصر فتحه قانونيا وطورا تذرعا بإمكانية قصف المساعدات من قبل “إسرائيل”. والحقيقة التي يعرفها الجميع أنه لا مانع قانونيا لمصر من فتح المعبر، إذ لا اتفاقية بينها وبين الاحتلال بخصوصه، ولا الاحتلال على حدودها، بل كان قرارا سياسيا من نظام مبارك ألا يتعامل مع حكومات حماس بعد فوزها في انتخابات 2006 والحسم الذي حصل تاليا في غزة. والجميع يدرك أن موقف النظام المصري الحالي ليس أقل تشددا تجاه حماس من نظام مبارك، وبالتالي فإن إغلاق المعبر قرار سياسي نابع من إرادة سياسية مصرية، وليس خطوة اضطرارية في هذا الإطار.
أكثر من ذلك، يفرض القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني على مصر مسؤوليات تجاه المدنيين في غزة بعدِّها دولة مجاورة، من حيث المساعدة وإدخال المساعدات ومواد الإغاثة وإجلاء الجرحى وما إلى ذلك.
أما التذرع بأن الاحتلال يمكن أن يقصف المساعدات فعذر أقبح من ذنب، إذ يصور القاهرة عاجزة أمام بلطجة الاحتلال، علما أنها وبغض النظر عن قدراتها الذاتية متحصنة بقرار عربي- إسلامي تدعمها فيه 56 دولة أخرى، ويمكن للمساعدات أن تدخل تحت اسم وعلم عدة دول، ولا يُتوقع ولا يُنتظر من الاحتلال أن يدخل في صدام عسكري معها جميعا بالعدوان على حملاتها وهو لا يستطيع الوقوف أمام شباب المقاومة في غزة.
ولعل الجدل يمكن أن يحسم بالعودة عدة سنوات للوراء لمثال لا مراء فيه. ففي عدوان 2012 وحين كان محمد مرسي رئيسا لمصر وامتلك إرادة سياسية للعب دور محوري وفاعل لوقف الحرب وإدخال المساعدات، كان رئيس وزرائه هشام قنديل بعد ساعات/ أيام من بدء الحرب داخل غزة ومستشفياتها (رفقة وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو) في رسالة سياسية قوية وواضحة ساهمت في وقف العدوان سريعا جدا.
وعليه، فإن دراسة الإمكانات في أيدي الدول العربية والنظر في واقعها يُسقط الادعاء بأنها عاجزة عن مد يد المساعدة لغزة. قد يصدق ذلك بحق بعض الدول البعيدة أو الضعيفة أو الصغيرة، لكن الدول الفاعلة والمؤثرة يصح فيها أكثر وصف الخذلان لا العجز، وبعضها يصل حد التواطؤ. هذا فيما هو معلن، ولعل فيما يقال ويُفعل في السر وخلف الأبواب المغلقة ما هو أعظم وأفدح وأكثر عارا.