بعد مرور ما يقرب من الخمسة شهور على الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، واقتراب دخول شهر رمضان، يبدو أن هناك تطوراً في مسار ونتائج الجولات التفاوضية المستمرة لتحقيق هدنة مؤقتة أو وقف لإطلاق النار أوسع في غزة، في إطار عدد من الشواهد والمعطيات.
صدر عدد من التصريحات المتفائلة بإمكانية تحقيق هدنة قريبة في غزة، مطلع الأسبوع الجاري، فقد أكد نتنياهو، على وجود احتمال لتأجيل الهجوم على رفح “لبعض الوقت”، إذا تم التوصل لهدنة، كما قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي إن إسرائيل و”حماس” قد تتفقان قريباً، واعتبر بايدن أنه يأمل أن يبدأ وقف إطلاق النار في غضون أيام. وبعد توقف دام حوالى شهر، وفي خطوة إيجابية، التقى مدير وكالة المخابرات الأميركية المركزية ورئيس الموساد ومفاوضين من مصر وقطر في باريس أواخر الأسبوع الماضي. وركزت المحادثات حول الإطار الأولي الذي طرح مطلع الشهر الجاري، والذي وضعت عليه حركة “حماس” تعديلات، رفضها نتنياهو بعد ذلك. وأكد سوليفان إن تلك اللقاءات أسفرت عن تفاهم حول الخطوط العريضة من الصفقة، وهناك حاجة لتحدث الوسطاء القطريين والمصريين مع حركة “حماس”. عقدت في أعقاب ذلك جولة أخرى من المحادثات، خلال الأسبوع الجاري، في الدوحة. ورغم نفي حركة حماس حدوث اختراق في مفاوضات الهدنة الحالية، إلا أن إسماعيل هنية، قام بزيارة إلى مصر خلال الأسبوع الماضي، في أول زيارة له منذ شهر كانون الأول الماضي، التقى خلالها بالوسطاء المصريين، الذين كشفوا عن قيامهم بالبحث في تطورات شروط الهدنة الحالية، والتي لم تضع الحركة أي شروط جديدة عليها. وأكدت الحركة في ذات الاطار إنها لن تقوم بإطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين حتى تنهي إسرائيل هجومها وتسحب قواتها من القطاع. واعتبرت القناة ١٢ الإسرائيلية أن هناك “نوعاً من التحول” في موقف حركة حماس حول مطلبها بإنهاء الحرب.
لم يعلن بعد التوصل لأي اتفاق، رغم الترويج لعدد من التفاهمات، أهمها إمكانية الإعلان عن هدنة مؤقتة لمدة ستة أسابيع، وإطلاق سراح حوالي ٤٠ محتجزا في غزة من فئات معينة، مقابل إطلاق سلطات الاحتلال ٤٠٠ معتقل فلسطيني من ذات الفئات، وعدد من ذوي المحكوميات العالية، وسماح جيش الاحتلال بعودة النساء والأطفال إلى شمال غزة، دون عودة الرجال، و”إعادة انتشار” القوات الإسرائيلية داخل غزة، دون انسحاب كامل منها، والسماح بوصول أكبر للاحتياجات الإنسانية لسكان القطاع. ووضع نتنياهو شرطاً جديداً للصفقة المطروحة، تمثلت بنفي الأسرى الفلسطينيين المدانين بـ “جرائم خطيرة” إلى قطر، وعدم الاستعداد للتقدم في معايير الصفقة حتى تتلقى إسرائيل قائمة تحدد عدد المحتجزين الاحياء في غزة. وتأتي تلك التفاصيل في ظل عدم وجود تغير جوهري في الاطار الذي وضع مسبقاً، والذي وضعت عليه حركة “حماس” تعديلات، رفضها نتنياهو.
إن التوصل لهدنة ليس جديداً، خلال مجريات العدوان الاسرائيلي الحالي على غزة، فقد تم الاتفاق بين حركة حماس وإسرائيل على هدنة لمدة أربعة أيام، جرى توسيعها بعد ذلك لأيام معدودة، في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني الماضي، أطلق على إثرها عدد من المحتجزين والمعتقلين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستؤنف الهجوم الإسرائيلي على غزة في أعقابها. وأكدت حركة حماس بعد ذلك أنها لن تكرر مثل تلك التفاهمات، إلا إن تعلقت بوقف القتال نهائياً. كما أن انخراط إسرائيل في مفاوضات الهدنة بعد ذلك، جاء لإرضاء الولايات المتحدة، وامتصاص الغضب المحلي الإسرائيليوالعالمي، في ظل إصرارها على عدم التخلي عن السعي لتحقيق هدفها بهزيمة حركة حماس، إما في ميدان المعركة، أو من خلال شروط التفاوض. فقد أكد مسؤولون إسرائيليون استعدادهم الموافقة على خروج يحيى السنوار من غزة، كجزء من صفقة رهائن محتملة، أي تكرار سيناريو ما بعد حرب بيروت عام ١٩٨٢. إن حدود الصفقة التي ارادتها إسرائيل، خلال مفاوضات الهدن تمثلت في إعلان النصر على حركة “حماس” سياسياً، بدلاً من إعلان النصر في الميدان، وانعكس ذلك في حدود شروطها وردودها على أي مبادرات أو شروط تضعها الحركة. في حين تتمحور شروط حركة “حماس” بشكل عام حول وقف العدوان أولاً، والانسحاب الإسرائيلي من غزة بشكل كامل، وإجراء صفقة تبادل شاملة. وتعكس المقارنة بين شروط الطرفين حدود فجوة واسعة بين مواقفهما، الأمر الذي يفسر عدم الوصول لصفقة شاملة حتى الآن.
تسبب الهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة باستهداف المدنيين في قتل وفقد حوالي ٤٠ ألف مدني فلسطيني، وإصابة ما يقترب من ٧٠ ألف آخرين. يأتي ذلك بالإضافة إلى موت مئات من المدنيين في غزة، خصوصاً في شماله، نتيجة منع الجيش الإسرائيلي وصول الاحتياجات الإنسانية، من غذاء وماء نظيف ودواء. وهجر الكثير من سكان شمال القطاع، الذي دمر الاحتلال حوالي ٦٠ في المائة من البيوت في القطاع عموماً، وفقد حوالى مليون ونصف فلسطيني بيوتهم، ولم يتبق في شمال القطاع إلا ما بين ثلث ونصف سكانه، بعد أن كان يضم أكثر من مليون وربع المليون مواطن. ولا تسمح إسرائيل بدخول أكثر من نصف المساعدات للقطاع، وهي تلك المتراكمة بآلاف الأطنان على الحدود الفلسطينية المصرية، وتعقد عملية وصولها، خصوصاً لسكان شمال القطاع. وتعمد الجيش الإسرائيلي استهداف المستشفيات، وسيارات الإسعاف، ومقرات وسيارات الدفاع المدني والبلديات التي تقدم العون للغزيين، بهدف زيادة معاناتهم. واليوم، تبدو المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، في أصعب حالاتها. ويتفاقم الوضع أكثر في ظل تهديدات إسرائيلية، بامكانية اجتياح مدينة رفح، في حال عدم التوصل لهدنة قريبة. وهي التي تحتضن اليوم أكثر من مليون نازح جاؤوا من شمال غزة. ويبدو الأمر أكثر صعوبة على الفلسطينيين في ظل اقتراب دخول شهر رمضان.
ويتصاعد الضغط الداخلي الإسرائيلي، يوماً بعد يوم، على حكومة الحرب، لإخراج المحتجزين الاسرائيليين من غزة، في ظل زيادة الخسائر البشرية بين صفوف الجيش، التي تزيد من الضيق الشعبي في إسرائيل. وتزايدت الضغوط على نتنياهو من عائلات المحتجزين، التي تطالب باتخاذ إجراءات أسرع. وشهدت إسرائيل موجة متزايدة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وخاصة في أيام السبت، والتي تعكس الاستياء العميق من نتنياهو وحكومته، وهو استكمال لتلك التي جاءت قبل الحرب، منذ عام. وشهدت الاحتجاجات الأخيرة تصعيدا مع الشرطة، الأمر الذي يحمل تحولاً آخر منذ هجمات أكتوبر الماضي. وتزداد الفجوة بين مواقف الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية، في ظل استمرار الاستنزاف في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وعدم النجاح في اخراج المحتجزين الإسرائيليين، وعدم القدرة على حسم المعركة مع حركة “حماس”. ويعتقد مسؤولون في المخابرات الأميركية قدموا إفادة أمام أعضاء الكونغرس مؤخراً، أن الجيش الإسرائيلي لم يقترب من تدمير قدرات “حماس” القتالية، مثيرين الشكوك حول مدى واقعية حدوث ذلك في القريب العاجل. كما أن هناك حراكاً شعبياً عالمياً كبيراً، يضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، يرفض استمرار الهجوم على غزة، ناهيك عن التذمر الرسمي وشبه الرسمي العالمي كذلك، والذي وصل لدول حليفة لإسرائيل. يأتي ذلك في ظل خضوع إسرائيل للتحقيق بتهم ارتكابها جرائم إبادة جماعية، بحق الفلسطينيين في غزة، من قبل محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في العالم.
إن تلك العوامل الضاغطة على حركة “حماس”، في ظل المعاناة الإنسانية المتصاعدة في غزة، وعلى إسرائيل، في إطار تراكم الضغوط الداخلية في إسرائيل، وداخل الأراضي المحتلة في الضفة والقدس، والميدانية في غزة وجنوب لبنان والدولية، مع الوضع بعين الاعتبار معركة نتنياهو لضمان بقائه في الحكم، دون وجود أفق قريب لهزيمة حركة “حماس” وتحقيق هدف الحرب، يجعل فرص الوصول لهدنة أقرب للحدوث من أي الوقت مضى. وتحقق الهدنة مكاسب لإسرائيل، فقد يخرج مزيد من المحتجزين، في تحقيق انجاز لنتنياهو، دون التخلي عن تحقيق الأهداف المعلنة ووقف الهجوم، ومن المرجح أن تقف التوترات على الجبهة الشمالية، وتمنح فرصة استراحة للجيش. ويرتبط توقيت الصفقة بمخاوف إسرائيل بامتداد التصعيد إلى القدس والضفة الغربية خلال شهر رمضان. وتعد الهدنة مفيدة لحركة “حماس”، لأنها ستعطي فرصة لوصول المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، واستراحة للمقاتلين، وفرصة لضغط الجهات الوسطية والدولية لوقف القتال. وقد تسمح هدنة مؤقتة من هذا النوع بإمكانية منع استئناف القتال بعد ذلك قريباً، تحت وطأة شدة المعاناة والدمار، التي ستنكشف تفاصيلها بجلاء بعد توقف القتال. كما ستعطي الهدنة لحركة “حماس” إمكانية الانخراط في اطار منظومة وطنية فلسطينية، يمكن أن تخرج الوضع الفلسطيني من أزمته الحالية. وقد ترتبط تلك التطورات باستقالة حكومة اشتية، وحوارات موسكو التي تبدأ اليوم، بمشاركة الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
لكن يبقى السؤال المصيري متعلقاً برؤية الحل بعد ذلك، اذ قد يشكل حدوث مثل تلك الهدنة، مدخلاً لوقف الهجوم على غزة، ولكن ليس لإنهاء الاحتلال، ومواصلة السيطرة الأمنية على القطاع، ودون وجود أفق واضح لحل جوهري للقضية الفلسطينية.