[[{“value”:”
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
منذ الاجتياح الإسرائيلي الكبير للأراضي الفلسطينية عام 1948 بدعم من بريطانيا ومن ورائها الحلف الغربي والولايات المتحدة الأمريكية، استطاعت إسرائيل إن تؤسس لنظرية “الردع” والتي تقوم على تخويف كل من يحاول النيل منها عسكريًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا، ورسّخت ذلك أكثر من خلال تجاوز حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى كافة البلدان العربية في معارك كبرى أو صغرى.
وكان على رأس تلك المعارك حرب تموز/يونيو عام 1967 والتي قامت فيها حكومة الاحتلال باحتلال سيناء في مصر وغزة والضفة الغربية في فلسطين والجولان في سوريا.
ثقافة شعب
بهذه الحرب الكاسحة لإسرائيل أقامت تحالفات على شروطها لمن خضع لها، وتمثّل ذلك في كثير من الأنظمة العربية وجيوشها النظامية في أعقاب معاهدة كامب ديفيد، بينما نصبت العداء بارتكاب المجازر لمن واجهها بالمقاومة، وتمثّل ذلك في جُل الشعوب التي لها ثأر مع كيان الاحتلال، وكان في القلب منها الشعب الفلسطيني الذي يعاني ويلات الاحتلال على مدار عقود، فانعقد اللواء تلو الآخر، وقامت انتفاضات شعبية، وتنوعت الفصائل المقاومة، كل ذلك بإمكانات بدائية في مقابل ترسانة عسكرية إسرائيلية لا نظير في الشرق الأوسط، ودعم غربي لا محدود لها.
خلال ما يقرب من ثمانية عقود، ارتكب فيها كيان الاحتلال أبشع الجرائم وانتهك فيها كل القوانين والأعراف الدولية، إلا أنه لم يهنأ يومًا بالاستقرار والشعور بالأمان تجاه الشعب الفلسطيني الصامد؛ حيث تحطّمت كل أساطيره التي خطط فيها لتبوير أرضية المقاومة وإنشاء أجيال تريد الأمان وتنسى ثأرها وقضيتها، ليصحو كل فترة على انتفاضة شعبية أو عملية فدائية يقوم بها الفلسطينيون يؤكدون من خلالها ألا مقام لهذا المحتل، ولا أمان له، وأن الصمود هو الثقافة السائدة لهذا الشعب الأبي مهما واجه من تحديات وآلام وحروب.
إفشال أهداف الاحتلال
وخلال معركة طوفان الأقصى، والتي هي الأكثر وحشية والأطول زمنًا في تاريخ الصراع مع كيان الاحتلال، كان من المتوقع للاحتلال وحلفائه، وحتى المراقبين، أن تلك الضربات لن يصمد أمامها أيٌّ من الفلسطينيين، بل وستنهار الحاضنة الشعبية للمقاومة كونها صاحبة المبادرة في تلك الحرب والتي ينظر إليها كثير من المطبعين أنها كانت انتحارًا ألقى بمصير الشعب الفلسطيني إلى المجهول، لكنّ الواقع لم يكن إلا نسخة من الماضي العظيم لأهل فلسطين؛ حيث أبهروا العالم بصمودهم وتشبثهم بالأرض وتفضيل الموت على مخطط التهجير.
عامٌ كامل من القصف الجنوني على رؤوس المنازل والبنية التحتية في قطاع غزة، أدى لاستشهاد أكثر من 41 ألفًا حتى اليوم، وإصابة ما يقرب من 100 ألف آخرين، وتدمير البنية التحتية والقطاعات الحيوية بشكل كامل، لتصبح الحياة في غزة أشبه بحياة الصحراء الخالية من كل مقومات الحياة، إلا أنها لم تخل من أهلها الصامدين المحتضنين لمقاومتهم في مشاهد أصابت العدو الإسرائيلي بالجنون نتيجة فشل مخططه.
تكيُّف واستنهاض قدرات
يرى الكاتب والباحث عمار علي حسن أنه “إذا كان صمود المقاومين يكمن في قدرتهم على مواصلة القتال بالكفاءة نفسها، فإن صمود الشعب يتمثل في التكيف السريع مع ظروف قاهرة، وإدارة كل فرد، أو أسرة، أو عائلة، حياتهم اليومية بما لا يُمكّن المحتل من تحقيق هدفه في تهجير سكان القطاع، أو تحقيق انتصار كاسح على المقاومة، ثم تحديد من يدير شؤون أهل غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها”.
ويضيف حسن في مقال له على شبكة الجزيرة أن الغزيين استنهضوا قدرة البشر على التكيف مع الألم عند حده الأقصى، ثم تحويل المشكلة إلى فرصة، والتحدي إلى استجابة، والمحنة إلى منحة، والمأساة إلى ملحمة، واليأس إلى رجاء. وتطلب هذا منهم أن يعتنوا بإدارة الشأن اليومي، كأن كل يوم هو الحياة بكاملها، وأن يعترفوا ويقروا بأن دفع الثمن الباهظ هو جزء أصيل من العيش، وأنّ عليهم أن يعتبروا ما هم فيه ليس استثناء عابرًا، إنما قاعدة حياتية مقيمة، وكأن هذه هي الحياة الطبيعية، التي عليهم أن يحيوها، مادام أن وقف القتال ليس بأيديهم.الكاتب عمار علي حسن
الكاتب/ عمار علي حسن
الصمود انتصار
ومن هنا يؤكد الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن، أنه أيًا كانت نتيجة الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، فإن صمود الفلسطينيين يمثل “انتصارًا”، معتبرًا أن الغزيين بصمودهم المتواصل أمام آلة الحرب “قاموا بما لم يقم به أحد في التاريخ”.
وأضاف عبد الرحمن، في مقابلة مع الأناضول، أن “الغزيين بينوا للعالم كيف ينبغي أن يحيا من جديد.. ما يقع في غزة هو إحياء لقيم ماتت”، موجهًا رسالة إلى الفلسطينيين في غزة، قائلاً إن “الصمود هو أبرز شيء، سواء بالنسبة للمدنيين أو الذين في الجبهات (المقاتلين).. بالإضافة إلى الإيمان.. وكيفما كانت نتيجة (الحرب)، فالصمود دليل على الانتصار”.
وتابع: “العظماء دائمًا لا يكونون كتلًا، بل أفرادًا أو فئات قليلة، ويلحق بهم آخرون، كلٌّ على قدره واستطاعته، وتبقى القيادة دائمًا لطائفة مخصوصة محل عناية ربانية”، لافتًا إلى أنه على الرغم من الأوضاع اللاإنسانية والكارثية للفلسطينيين في غزة، يرفض الفلسطينيون دعوات أطلقها وزراء إسرائيليون لتهجيرهم خارج غزة، كما تواصل فصائل المقاومة، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الحرب، الرد بإطلاق صواريخ على إسرائيل، بالإضافة إلى قتل ضباط وجنود إسرائيليين وتدمير آليات عسكرية خلال اشتباكات يومية داخل القطاع.
المفكر المغربي/ طه عبد الرحمن
الصمود الفلسطيني له عدة أوجه، تتمثل بداية في مقاومة المحتل مهما كان الثمن الذي يدفعونه من أنفسهم وأبنائهم ومنازلهم وأعمالهم، ويتمثل كذلك في احتضان المقاومة ورفض كل المشاريع الاحتيالية والتسويات السياسية المشبوهة والمنبطحة، كما يتمثل الصمود في التعايش مع الأزمات بالصبر والاحتساب ومحاولة تخليق إمكانية مواصلة التعايش مع المستجدات الصعبة في ظل الحروب والحصار.
“صامدون كالجبال الراسيات، وكالنجوم اللامعات، ومتجذرون في هذه الأرض”، تلك بعض كلمات مُسنّ فلسطيني يقف بين ركام البنايات المهدّمة من حوله في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، وذلك بعد مرور شهور الحرب الطويلة والقاسية، مستشهدًا بآيات القرآن الكريم التي تعد بالنصر، ومتفائلاً بتحرير القدس ودحر الاحتلال.
التحدي من قلب المحنة
ومن أوجه التحدي والصمود لدى الفلسطينيين أنهم لا يظهرون جزعًا لعدوهم إذا نال منهم قتلا ودمارا وتهجيرا، فهم بين الأشلاء يتحدون القتلة، وفوق الركام يهتفون للمقاومة، وذلك مع عظم المصاب وشدة المحنة وانعدام الأفق المنتظر لإنهاء المعاناة.
امرأة فلسطينية بالكاد تستطيع أن تحمل خطواتها تحت سقف ما تبقى من بيتها بعد أن صار كومة من التراب بفعل القصف الإسرائيلي، لم يأخذها هو المصيبة عن أن تبعث برسالة التحدي لقادة الاحتلال، قائلة: “الله مع المقاومة وشبابها.. كلنا فدا المقاومة.. طز فيكي يا إسرائيل”.
البُعد الإيماني
ويظهر الجانب الروحي والبعد الإيماني في قدرة المواطن الفلسطيني على الصمود؛ حيث خرج العديد ممن فقدوا أبناءهم أو عوائلهم أو منازلهم يكفكفون دموعهم ويظهرون تماسكهم، بل ويدعون غيرهم للصبر والاحتساب وينهونهم عن البكاء انتظارًا لما أعدّه الله للصابرين والشهداء في الآخرة من نعيم.
“ما تعيطش يا زلمة.. كلنا مشروع شهداء”.. عبارات لم تخرج من خطيب على المنبر ولا من واعظ يواسي مكلومًا، بل قالها رجل غزي فقد ابنه وابنته في قصف إسرائيلي، وتعمّد استحضار ما أعدّه الله يوم القيامة لأهل الشهيد من مكرمة الشفاعة، وتحولت كلماته ونظراته ووقفته الثابتة إلى نموذج للصبر والاحتساب لكل صاحب محنة.
“}]]