[[{“value”:”
لقد بات سقوط الصنم وشيكاً كما كتبت الكندية من أصل يهودي، نعومي كلاين، في مقالها أخيراً في “الغارديان”، عندما تشبّه الصهيونية بعجل السامري الذي سحر الناس حتى نسوا ما هو أسمى وأرقى. وفي حالتنا اليوم، لا شيء أسمى من القيم التي كاد العالم ينساها حتى جاء الحراك الطلابي المبارك، بفضل تضحيات غزّة الشهيدة، ليعيد إليها وهجها وكونيّتها، فمظاهرات الطلاب التي تُشعل اليوم جامعات العالم، والقمع الذي تتعرّض له أفرغا تهمة “معاداة السامية” من كل معنى، وعندما تسقط هذه التهمة التي بنت عليها إسرائيل والصهيونية عقيدتها للتحكّم في العالم، فسوف يسقط الصنم وتتحرّر العقول في الغرب من الخوف من انتقاد إسرائيل والصهيونية.
قبل سبعة أشهر فقط، كان السكوت عن إدانة حركة حماس، أو انتقاد سياسات إسرائيل، وانتقاد الصهيونية التي كانت، حتى الأمس القريب، تعدّ حركة عنصرية بحسب لوائح الأمم المتحدة، كلها مبرّرات شرعية لإسكات كل الأصوات المناصرة للفلسطينيين وعزلهم داخل مجتمعاتهم، واتّهامهم بالتهم الجاهزة “الإشادة بالإرهاب” أو “معاداة السامية”، ولا يهمّ حتى لو أدّى ذلك إلى تأليب الرأي العام ضدهم، وشيطنتهم، وفسح المجال أمام انتشار خطابات الكراهية والعنصرية و”الإسلاموفوبيا”.
ما زالت أجواء القمع هذه لم تسقط كلياً في كل الدول الغربية، وما نشهده اليوم من قمع للأصوات المؤيدة للفلسطينيين هي محاولة لإنقاذ الهيكل قبل سقوطه النهائي. ومن هنا هذا المستوى من القمع والترهيب غير المسبوق لم يشهده الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لإسكات كل الأصوات التي ترفض الصمت. أما بشاعة الجريمة التي ترتكبها الصهيونية يومياً في غزّة. إلى درجة أصبح بعض الكتاب الغربيين يتحدّثون عن عودة “الماكارثية” التي باتت تتمدّد يومياً من أميركا إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تنتصب في كل مكان لإسكات كل الأصوات المزعجة التي تخشى من حالة الاندحار الذي يتّجه نحوه العالم الذي سمح بظهور همجية العصور البالية وسط قلب الحضارة المعاصرة. بسبب هذا النوع الجديد من “المكارثية”، أصبح مجرّد التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، سواء عن طريق الكتابة أم التعبير الشفاهي أم التظاهر في الشارع يودّي إلى التحقيق، وربما الاعتقال والمحاكمة، فإظهار التعاطف من الفلسطينيين أصبح جريمة في دول غربية عديدة، بما فيها أميركا التي تعدّ قائدة الدول الحرّة، وفرنسا التي كانت توصف بأنها أرض ميثاق حقوق الإنسان، وهذا وحده كفيل بأن يجعل الشعوب الغربية تنتبه إلى الخطر الذي بات يهدّد إحدى أهم الحرّيات الأساسية التي قامت عليها مجتمعاتها.
ولذلك، أصبحت التظاهرات اليوم تتخذ بعداً أكبر من التضامن مع فلسطين والتنديد بالجرائم ضد المدنيين، إلى الدفاع عن حرية التعبير، لأن القمع الذي واجهت به أميركا مظاهرات الطلاب أشعرهم بأن المستهدف هو حرّيتهم في التعبير وفي التظاهر والاحتجاج. والشيء نفسه في فرنسا، فمنع التظاهرات والتحقيق مع السياسيين معارضي توجّهات الحكومة الفرنسية في مساندتها اللامشروطة إسرائيل، جعل الكاتب الفرنسي، إدوي بلينيل، مدير الموقع المستقل “ميديا بارت” ومؤسسه، يتحدّث في مقال له عن “سياسة الخوف” التي تريد أن تحبس المجتمعات الغربية في حاضر أبدي بدأ وانتهى يوم 7 أكتوبر، تاريخ مجرّد بلا سبب وبلا سياق، وكأن التاريخ بدأ عند ذلك اليوم، تماماً كما فعلت أميركا مع يوم 9 سبتمبر الذي حوّلته إلى تاريخ مخيف لا أحد يُسمح له أن يفكّر بحرية بشأن أسبابه ونتائجه الكارثية على العالم. لذلك يرى بلينيل أن التظاهر اليوم من أجل فلسطين في فرنسا مشروع “ولو لإنقاذ هذا المبدأ الديمقراطي فقط المتمثل في حرية الفكر والحق في النقد. إنها ليست مسألة إنسانية فقط، في مواجهة الاستشهاد الذي لا يُحصى في غزّة، بل إنها مسألة سياسية، في مواجهة الخطر الاستبدادي هنا في فرنسا. وبعيداً عن خلافاتها واختلافاتها، ينبغي لجميع القوى التي تدّعي أنها ديمقراطية حيّة وتعدّدية أن تطالب بالصوت نفسه، متّحدة وحازمة، بالتعبير عن هذا التضامن بحرية”.
جو الخوف الذي ساد بعد أحداث 11 سبتمبر في أميركا، وخوّل لدول وحكومات سلطوية عديدة سن قوانين تحدّ من الحريات بل تقمعها باسم محاربة الإرهاب، هو الجو السائد اليوم في العالم، حيث يُشهِر قادة إسرائيل الساديون ولوبياتهم في العالم تهمة “معاداة السادية” في وجه كل صوت يحتج على جرائمهم البشعة في غزّة. نحن أمام إعادة صناعة “سياسة خوف”، بقدر ما تمثل تهديداً فعلياً لأهم القيم الإنسانية المشتركة، فهي تعبر عن الفشل والضعف الذي يعتري أصحاب القوة العمياء في تل أبيب وواشنطن وغيرها من عواصم العالم الغربي المساندة لإسرائيل. وفي المقابل، فالتجاوزات والقمع الذي ترتكبه السلطات في هذه الدول الغربية ضد مواطنيها المحتجّين على سياساتها تجاه إسرائيل، فضلاً عن جو الرعب الذي ما زال سائداً في دولةٍ مثل ألمانيا مصابة برُهاب “ذنب المحرقة”، ضد من يخالف هذه السلطات الرأي في موقفها من الحرب على غزّة، لا يهدّد أصحاب الآراء المساندة للفلسطينيين فقط، وإنما يهدّد مستقبل الديمقراطية الغربية، ويقوّض إحدى أهم الأسس التي تقوم عليها، وهي قيمة حرّية الرأي والتعبير، وهذا ما يدفع اليوم الشعوب إلى التحرّك من أجل استعادة حرّيتها أولاً، فالمقولة التي سادت عندما بدأت الحرب على غزّة ومفادها بأن “غزّة حرّة والعالم محتلّ”، أثبتت اليوم صحتها، وعندما يتحرّر العالم غداً سيكون ذلك بفضل غزّة العزّة، وهذا أجمل تكريم سيذكره التاريخ لأبطال غزّة وشهدائها.
“}]]