الحرب الدائرة على غزّة؛ هي الظرف الأعقد في تاريخ الفلسطينيين من بعد النكبة، وبالضرورة التحدّي الأخطر الذي تواجهه حركة حماس منذ نشأتها إلى اليوم، فلن يكون مستغربا إزاء ذلك، التردّد في النظر إليها، من عدد من المراقبين والفاعلين والناصحين، من كونها ثورة قلبت الأوضاع القائمة بقطع النظر عن الأهداف المتوخاة لمفجّريها وبما يوفّر فرصة للذهاب بها إلى التحرير الشامل، وبين أنّها فرصة لاستثمارها في إحياء التصوّرات السياسية التقليدية للقضية الفلسطينية، والتي يمكن اختصارها عادة بحلّ الدولتين. ولا يخلو الأمر من موقف أقرب إلى الفزع من هذه الحرب الطاحنة؛ فلا يَعْتَرِض على أيّ تنازلات جوهرية، فقط لأجل وقف الحرب، والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه.
بالإضافة إلى تعقيدات الحرب نفسها، وقسوتها وتعدّد صورها من الفتح الكبير يوم العبور للأفق الفلسطيني المنسدّ والصمود المُدهش للمقاومة، إلى الإصرار الإسرائيلي والأمريكي المكشوف، لا على كسر حماس فحسب، بل وعلى كسر الفلسطينيين في غزّة، ومن ثمّ التحطيم المعنوي تاليا لبقية الشعب الفلسطيني ولكلّ من يفكّر في تحدّي الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وما يتبع ذلك من تدمير وإزاحة سكانية بالدم والنار، وما يتبدّى إزاء ذلك من اختلال فادح في الحالتين العربية والفلسطينية من حيث الانخراط الواجب في هذه الحرب.. بالإضافة إلى كلّ ذلك، فإنّ البعض لا يمكنه أن يتخيل السياسة الفلسطينية إلا مبادرات مُقدّمة دائما من الطرف الضعيف.
وإذن فإنّه يمكن فهم مثل هذا التردّد، وهذه الآراء المتباينة، حتى لو كانت كلّها غير واقعية، وبعيدة جدّا عن إمكان التحقّق القريب، مما يعني أنّ الأداء السياسي لقيادة المقاومة المواكب للحرب ينبغي أن يكون أكثر واقعية، فلا هذه الحرب في مداها الظاهر وبصورتها الراهنة قريبة من التحرير الشامل، ولا حلّ الدولتين في وارد أحد على الحقيقة.
وليس من الحصافة بعد هذه التضحيات الشريفة الجليلة والجسيمة تقديم تنازلات مبكّرة مجربة من قبل كالعودة للحديث عن حلّ الدولتين، مما يعني اعترافا ضمنيّا بـ”إسرائيل”، فكيف بإبداء الاستعداد للاعتراف الصريح بها، ومن باب أولى ألا يكون واقعيا التنازل فقط لأجل إنهاء الحرب، أو تصوير أهداف الحرب بإعادة إحياء السلطة وتدوير حماس داخلها، ومن ثمّ، وحتى اللحظة، فموقف حماس المعلن برفض التفاوض على أيّ ملف قبل وقف إطلاق النار هو الموقف الواقعي الوحيد، وذلك في حين تطلّ الإشاعات برأسها عن حوارات بدرجات متعددة في مستوياتها، من ملفات تبادل الأسرى إلى كيفيات إدارة غزّة بعد الحرب، إلى تسوية القضية الفلسطينية برمّتها.
من الواضح أنّ النقاش الرافض لتلك التصوّرات كلّها، من أعلاها تفاؤلا إلى أكثرها استعدادا للأخذ بالمقترحات المسماة تاريخيا بالواقعية، هو نقاش في واقعيتها، وعليه فليس ثمّة معنى للجهد الذي يبذله بعضهم عادة للتبشير بالواقعية، فالواقعية في المضمون وفي الإمكان، وليست في المبدأ، أي ليست القضية أن تصوغ رؤية، أو أن تتقدم بمبادرة، أو أن توافق على مقترح، أو أن تبدي استعدادا للتنازل، أو أن تبالغ في مجاملة من تعدّهم أصدقاء لك، ولكنّ القضية في صواب ذلك من حيث تحقيقه الغرض المرجوّ منه، وهذه هي الواقعية، أي صواب الفكرة في نفسها من حيث وقتها وإمكانها، ولنا أن نعجب ممن يترك نقاش المضمون؛ للتبشير بالواقعية، دون أن يقدر على إثبات واقعية هذا المضمون!
استخدمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من بعد حرب تشرين/ أكتوبر 1973، سياسة مركبة لإدارة الصراع، لأجل احتواء المقاومة الفلسطينية، تستند إلى إطلاق يد الإسرائيلي من جهة، وإغواء الفلسطيني من جهة أخرى بعمليات استطلاع سياسي تلاحظ إمكان استنزافه السياسي باستدراجه المستمرّ إلى مربعات الإسرائيلي، ثمّ إسقاطه مرّة واحدة بأخذ ما يراد منه سلفا، وهو الاعتراف بـ”إسرائيل”، وعلى طريق ذلك يُدفع إليه الذين يسمّون أصدقاءه، ليقنعوه بإبداء المرونة الكافية لإثبات جدارته بالحديث معه (في أوقات كان مجرد الجلوس مع منظمة التحرير يصوّر بأنه إنجاز يكاد يضاهي تحرير فلسطين)، تلك المرونة مثلا بالموافقة على قرار 242، أو التصريح بحقّ شعوب المنطقة أن تعيش بسلام جنبا إلى جنب (كان يستعاض عن القول دول المنطقة بالقول شعوب المنطقة، في إشارة يراد أن تكون مكشوفة أصلا).
على الفلسطيني إذن أن يعطي “أصدقاءه” شيئا يعودون به إلى ما يسمى المجتمع الدولي، أو إلى الولايات المتحدة خاصّة، لإقناعهم بجدارة هذا الفلسطيني بالحديث معه، ولإثبات أنه “واقعي” غير عدميّ، وقد كان “الأصدقاء” عادة في الماضي من قبيل الاتحاد السوفييتي، أو بعض الدول الأوروبية التي مثّلت منافذ خلفية لـ”الفتح العظيم” (الحديث مع منظمة التحرير)، والسياسة الأمريكية المركبة في هذا الاستدراج، بعد إطلاق يد الإسرائيلي، تتبيّن في كشف ظهر الفلسطيني، فيبدو وحيدا، ثمّ يخيّل له أنه غير وحيد، فتصير دبلوماسية “الأصدقاء” مساندة ومؤازرة، فلا بدّ من تعزيز موقفهم بـ”شيء يُعطى لهم” (ألا ما أكرم هؤلاء الأصدقاء!)، هذا ما حصل فعلا بعد بيروت 1982.
وفي الأثناء قل ما تشاء عن ضمانات، بات من نافلة القول إنها هي نفسها بلا ضمانات، فاستخفاف الأمريكي بالعالم أوضح من أن يُشرح وأقرب من أن يُذكّر به. وأمّا الإسرائيلي فهو ذلك الذي لا يفهم معنى الضمانات أصلا، أمّا “الأصدقاء” فهم عادة بلا حول ولا قوّة، وينحصر دورهم في مطالبة الفلسطيني “بإعطائهم شيئا”، وفي الملاحم الكبرى، كالانتفاضة الأولى يقنعونه بالاستثمار الواقعي، والذي يثبت بالتجربة التاريخية أنّه غير واقعي! لأنّه يعني أن يتنازل الفلسطيني تماما ومرّة واحدة عن مقولته السياسية، بدفعه للاعتراف بـ”إسرائيل” معتمدا على ضمانات الأمريكي المستخفّ بالعالم، ومنتشيا (أي الفلسطيني) بفحيح “الأصدقاء”، فإن لم يكن فبالاستدراج بالطريقة الأمريكية المعهودة!
على كلّ حال، يمكن فهم الدوافع وراء العديد من الأفكار المطروحة أو التي قد تُطرح، والتي في الكثير منها (أي الدوافع) لا تخلو من النُبل، بقطع النظر عن الرأي فيها، ومن ثمّ فالتشكيك في صوابها لا يعني تشكيكا في نوايا أصحابها، لكنه يعني باختصار عدم واقعيتها، من حيث هي في ذاتها، ومن حيث تدانيها من هذه التضحيات الجسيمة، وبقدر ما هو موجع غاية الوجع؛ القول إن ما يُخشى منه من مذبحة ودمار قد حصل، وأنّ التعويل على صمود الفلسطينيين في غزّة مجتمعا ومقاومة، فإنّ هذا ما ينبغي ملاحظته في التحرّك السياسي، ومهما كان الظرف معقدا فينبغي أن يُفهم معنى أن يقدّم الفلسطيني، هو قيادة المقاومة في هذه الحالة، ما كان يمكنه تقديمه بلا هذه الحرب كلّها، وأن استدراج الخصم إلى موقف المقاومة ممكن، فمن كان يطالب المقاومة برؤية تقترب منه، فليثبت هو حسن نواياه أولا، لتكون استجابته قاعدة يمكن النقاش بناء عليها لاحقا.