لا خلاف، تقريباً، بين الخبراء في الشؤون الأميركية، في أن ثمَّة فارقاً بين المثال والقيم السامية التي تزعمها الولايات المتحدة والواقع والممارسة الحقيقية، تاريخاً وحاضراً. من ذلك، مثلاً، أنه في الوقت الذي صيغت فيه مقدّمة الدستور الأميركي (1789) ونصت على “رغبة… شعب الولايات المتحدة.. في إنشاء اتّحاد أكثر كمالاً، وفي إقامة العدالة، وضمان الاستقرار الداخلي، وتوفير سبل الدفاع المشترك، وتعزيز الخير العام وتأمين نِعَمِ الحرية لنا ولأجيالنا القادمة..”، كانت جرائم الإبادة بحقّ السكان الأصليين تمضي على قدمٍ وساق، في حين لم تمنع قيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية، التي يحفل بها الدستور، من تقنين ممارسة واحدة من أبشع صور العبودية التي عرفها التاريخ بحقّ السود. ورغم تطوير الولايات المتحدة مؤسّساتها القضائية والتشريعية عبر القرون والعقود الماضية، وتعزيز الحماية الدستورية والقانونية لمواطنيها، بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية والسياسية، إلا أن هذا لم يوقف التعدّيات والتجاوزات بحقّ أقلياتٍ كثيرة، وما نموذجا السود والمسلمين الأميركيين إلا أمثلة في هذا السياق. بقية القصة معروفة، من حيث افتراق المثال عن الواقع عندما يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجية، فقضايا كحقوق الإنسان والديمقراطية والحرّيات يتم توظيفها انتقائياً للتدخّل في شؤون دولٍ تريد واشنطن ابتزازها وإخضاعها، في حين يجري غضّ الطرف عنها في حالة دول أخرى إن قبلت، طائعة أم كارهة، الدوران في الفلك الأميركي.
مناسبة هذا الكلام التصريح المبتذل للرئيس الأميركي، جو بايدن، يوم الثلاثاء الماضي (12 ديسمبر / كانون الأول)، وأطلقه ضمن خطاب ألقاه في لقاء انتخابي جمعه مع أثرياء يهود أميركيين في واشنطن، قال فيه “ثمَّة مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أميركا مركزها الأخلاقي”. أما السياق الذي جاء فيه التصريح فكان تباهييه أمام هؤلاء المتبرّعين بالدعم الأعمى واللامحدود الذي تقدّمه إدارته لإسرائيل في عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، والذي يرقى إلى التعريف القانوني للإبادة الإنسانية. خلال خطابه ذاك، اشتكى بايدن من “القصف العشوائي” الذي تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة والذي أوقع عشرات آلاف الضحايا بين المدنيين، بالإضافة إلى تطرّف حكومة بنيامين نتنياهو، والتي فيها وزراء، مثل إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، الذي لا يؤمن بـ”حلّ الدولتين”، كما قال، ولدوره في تحريض المستوطنين اليهود على العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. ورغم ذلك، لم يتنازل بايدن، ضمن سردية الشكوى هذه، عن تأكيد استمرار دعم إدارته المطلق لإسرائيل في عدوانها، وكأنه لم يقل قبل ذلك ببضع دقائق فقط أن ذلك يمسُّ بموقف أميركا الأخلاقي الذي زعمه!
المفارقة هنا أنه قبل يومين فقط (10 ديسمبر) من رسالة التذمّر هذه لجأت إدارة بايدن إلى صلاحيات الطوارئ بموجب قانون مراقبة تصدير الأسلحة للالتفاف على الكونغرس وبيع إسرائيل نحو 14 ألفاً من قذائف الدبّابات من عيار 120 مليمتراً ومعدّات ذات صلة بقيمة 106.5 ملايين دولار. ومعلوم طبعاً أن هذه القذائف الفتاكة تساهم بشكل كبير في مراكمة أعداد الضحايا المهولة بين المدنيين الفلسطينيين الذين تذرف إدارة بايدن دموع التماسيح عليهم، فضلاً عن الدمار المريع الذي تُحدثه في قطاع غزّة. وبالمناسبة، هذه الـ 14 ألف قذيفة مجرّد حزمةٍ صغيرةٍ من 45 ألف قذيفة لدبابات ميركافا الإسرائيلية بقيمة 500 مليون دولار طلبت الإدارة موافقة الكونغرس عليها، وهو ما سيكون. ليس هذا فحسب، فهذه الصفقة المميتة هي إضافة، وليست جزءاً، من أكثر من 14 مليار دولار مساعدات أغلبها عسكرية تريد إدارة بايدن تزويد إسرائيل بها. كما أن الـ 14 مليار دولار هذه غير 3.8 مليارات دولار مساعدات عسكرية تقدمها واشنطن سنوياً لتل أبيب، وهي غير المساعدات العسكرية الهائلة التي قدّمتها لها، كذلك، عبر جسرين، جوي وبحري، منذ 7 أكتوبر. من ثمَّ، وكما صرح مسؤول إسرائيلي لوسائل إعلام أميركية، إذا كانت إدارة بايدن قلقة ومستاءة إلى هذا الحدّ من أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين وحجم الدمار الهائل في قطاع غزّة فلماذا تزوّدنا إذاً بقنابل كبيرة يصل وزنها إلى طنّين من المتفجّرات؟
لا تقف المفارقات عند ذلك الحد. في الخطاب نفسه، أمام الأثرياء اليهود الأميركيين، زعم بايدن إنه ليس فقط الولايات المتحدة وأوروبا من يؤيدان إسرائيل، بل “أغلب العالم يؤيدها”، إلا أن “القصف العشوائي” في قطاع غزّة قد يفقدها هذا الدعم الدولي المزعوم. لم يمض يوم واحد فقط (13 ديسمبر) على تصريحات بايدن تلك حتى كانت 153 دولة عضواً في الجمعية العمومية للأمم المتحدة تصوّت على قرار يطالب بوقف فوري إنساني لإطلاق النار في قطاع غزّة، في حين صوّتت الولايات المتحدة وإسرائيل وثماني دول أخرى ضده، وامتنع 23 آخرون عن التصويت. لم تستطع واشنطن وقف ذلك التصويت، ذلك أنها لا تتمتع بحق النقض (الفيتو) في الجمعية العمومية على عكس مجلس الأمن، والذي أجهضت به، حتى اليوم، مشروعي قرار ملزمين بوقف إطلاق النار. أما المفارقة الثالثة، فكانت في تأكيد مسؤول أميركي أمس الخميس أن الولايات المتحدة لن تفرض أي قيود على المساعدات العسكرية التي تقدّمها لإسرائيل، رغم كل الاستياء الذي لا يفتأ بايدن وأركان إدارته يعبّرون عنه بشأن كيفية استخدام تل أبيب تلك الأسلحة.
نعود إلى مسألة “المركز الأخلاقي الأميركي” الذي يخشى بايدن تبدّده دولياً بسبب الأسلوب الوحشي الذي تتبعه إسرائيل في عدوانها على قطاع غزّة. منذ كان بايدن مرشّحاً للرئاسة وهو لا يملُّ من تكرار معزوفة “الوضوح الأخلاقي” و”السلطة الأخلاقية” الأميركية. بل إن بايدن جعل مسألة “الأخلاقية” من ركائز فلسفة إدارته للسياسة الخارجية، وذلك كما جاء في ورقة موسّعة نشرها في مجلة فورين أفيرز الأميركية عام 2020، تحت عنوان: “لماذا يجب أن تقود أميركا مرّة أخرى: إنقاذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد ترامب”. وبعيداً عن الاستطراد، جادل بايدن، حينها، بأنه حتى يُعاد “تنظيم العالم”، بعد سنوات الرئيس السابق، دونالد ترامب، الفوضوية، فإنه لا بد أولاً من أن تستعيد الولايات المتحدة مصداقيّتها ونفوذها، وأن يثق العالم بكلمة الرئيس الأميركي ويحترمها، وأن تقود أميركا عبر “قوة النموذج” و”استعادة القيادة الأخلاقية”، لا عبر “نموذج القوة”. وبالتالي، شدّد بايدن، حينئذ، على أن الرئيس القادم سيكون مطالباً بإنقاذ السمعة الأميركية، وإعادة بناء الثقة في قيادتها، وحشد الحلفاء لمواجهة التحدّيات الجديدة في أسرع وقت. وكان من الملاحظ أن بايدن رفع حينها شعار “جعل أميركا محترمة” مرّة أخرى مقابل شعار ترامب “جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى”.
لا يحتاج الأمر منا إثباتاً أن أميركا لا تحت بايدن، ولا حتى قبله، حكمت العالم يوماً بـ”قوّة النموذج” أو أنها قادته بالأخلاق. وهو ما يعيدنا مرّة أخرى إلى ذلك البوْن الشاسع بين المثال والواقع أميركياً وتوظيف ذلك المثال سيفاً مسلّطاً للابتزاز والإخضاع، كما تحاول أن تفعل اليوم مع روسيا والصين عبر اتهامهما بالسعي إلى “تقويض قواعد النظام الدولي”، والتي من الواضح أنها تعني “قواعد الهيمنة الأميركية” فحسب. للأسف، هذا عالمٌ لا يعترف إلا بالأقوياء، بحيث تحدّد القوة الحق، لا العكس. وحتى يستوعب العرب ذلك، وحتى يملكوا الإرادة السياسية الجمعية لإحداث التغيير المطلوب، ومراكمة أسباب القوة وأوراقها، فإنهم سيبقون في خانة الذين يتمَّ ابتزازهم وسفك دمائهم والتجاوز على سيادتهم والسطو على ثرواتهم، حيث لا عزاء في نظام الغاب للضعفاء، ولا حتى للمتواطئين مع الوحوش الكاسرة. في هذا السياق، تكون جريمة الإبادة في قطاع غزّة، رغم الصمود الأسطوري لشعبها ومقاومتها، مجرّد شاهد على القاع السحيق الذي يقبع فيه العرب، وليس على نفاق القوى العظمى فحسب.